أضحَى عالَمنا اليوم لا يعترف بالنيَّات بقدرِ ما يعتمد على النَّتائج الَّتي تخرج من السِّياسات الَّتي تتَّبعها الدوَل والحكومات، فقَدْ أصبحتِ المؤشِّرات الدّوليَّة بمنزلةِ عدسةٍ دقيقة تَقرأُ أداءَ الدوَل على مستوى السِّياسات العامَّة، أكثر ما تنظر على ما يروَّج له من شعارات أو عناوين؛ لذا حين نُطالع تقرير تنافسيَّة عُمان لعام 2024، فنَحنُ أمام شهادة موثوقة لا تعتدُّ بالشِّعارات أو النيَّات وتسعى لتجميل الصُّورة، لكنَّنا أمام أدوات للرَّصد المفصلي مسارات تقدُّم يُمكِن التحقُّق من أثَرها عَبْرَ الواقع. ومن أبرز أمثلة النَّجاح الَّذي حقَّقته سلطنة عُمان هو التَّقدُّم في مؤشِّر الأداء البيئي، حيثُ قفزتْ السَّلطنة فيه (94) مرتبةً دفعةً واحدة، وهو ما يُعبِّر عن تغيُّر جوهري في تعامُل الدَّولة مع قضايا البيئة، حيثُ يُشير هذا التَّقدُّم الكبير إلى جهود عمليَّة متعدِّدة من حيثُ التَّنفيذ الفعلي والتَّشريعات المنظِّمة والمُراقِبة. ولعلَّ تصدُّر السَّلطنة عالَميًّا في مؤشِّرات مِثل صرامة حماية البحار ومعدَّل نُموِّ الانبعاثات يؤكِّد ما بُذل من جهود، رغم أنَّ السَّلطنة لا تمتلك تفوُّقًا تقنيًّا بقدر ما هو تحوُّل إداري ورقابي يعكس فَهْمًا أعمقَ لِدَوْرِ البيئة في دَوْرة التَّنمية، وهو نموذج يُعبِّر عن حالة التَّطوُّر المستمر الَّتي تَقُومُ بها الحكومة ليس على الصَّعيد البيئي فحسب، لكن بالتَّوازي على كُلِّ الأصعدة. فالمؤشِّرات هنا لا تُمنح عَبْرَ المجاملات، لكنَّها ذات طبيعة كاشفة تكشف الأداء، وتفرض على كُلِّ مؤسَّسة من مؤسَّسات الدَّولة أنْ تراجعَ ذاتها في ضوء ما تحقَّق فعليًّا لا ما يُعلن عَنْه نظريًّا، أو ما نأمُل في تحقُّقه، أي أنَّها وسيلة مُهمَّة لتحويلِ الطُّموحات لواقعٍ ملموس. إنَّ التَّحوُّل في مؤشِّر الحُريَّة الاقتصاديَّة الَّذي وردَ في التَّقرير يُظهر نقطةً مضيئة أخرى شهدتْ تقدُّمًا، خصوصًا وأنَّنا لا يُمكِن أنْ نختزلَه بالنَّظر إِلَيْه كتغييرٍ في التَّصنيف، لكنْ عَلَيْنا أنْ ننظرَ إِلَيْه كانعكاسٍ لمسارٍ إصلاحي تراكَمَ عَبْرَ سنواتٍ من العمل المؤسَّسي الَّذي يسعى إلى إعادة ترتيب بيئة الاقتصاد الوطني. فعِندَما تنتقل سلطنة عُمان من وصف (غير حُرٍّ غالبًا) إلى (حُرٍّ إلى حدٍّ ما)، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ الأسواقَ باتتْ مفتوحةً بالكامل أو أنَّ الحكومة تخلَّتْ عن دَوْرها، وإنَّما يدلُّ على تراجُع هيمنة البيروقراطيَّة وبدء فتح المجال أمام القِطاع الخاصِّ والمستثمِرِين ضِمن إطار من التَّوازن والرَّقابة، كما أنَّ الارتفاعَ في مؤشِّرات فرعيَّة مِثل حُريَّة الاستثمار والحُريَّة الماليَّة والإنفاق الحكومي، يُشير إلى أنَّ هناك قرارات اتُّخذتْ بالفعل أدَّتْ إلى تحسينات ملموسة، مثل تسهيل الإجراءات، وتقليص العقبات، وإعادة النَّظر في أولويَّات الإنفاق العامِّ. فالاقتصاد لا يتجاوب مع التَّمنِّيات، لكنَّه يتطور فقط مع الوقائع. وإذا ما استمرَّتِ السَّلطنة في هذا النَّسق، فإنَّ البيئة الاستثماريَّة ستنتقل تدريجيًّا من حالة المراوحة إلى حالة الجاذبيَّة التَّنافسيَّة المستدامة، بشرط الاستمرار في بناء الثِّقة وتعزيز الاستقرار، الَّذي سيكُونُ أحَد العوامل الجاذبة لرؤوسِ الأموال المستثمرة، الَّتي ستفتح الآفاق لمستقبلٍ اقتصادي جديد متنوِّع يواكب الطُّموحات. ولعلَّ من أبرز النّقاط الَّتي سلَّط عَلَيْها التَّقرير الضَّوء، هي التَّقدُّم في مؤشِّر جاهزيَّة الشَّبكات، والَّذي تجاوز مجرَّد تطوير البنية الأساسيَّة الرَّقميَّة، إلى إعادة تشكيل العلاقة بَيْنَ الدَّولة والمُجتمع، وذلك على أُسُس تكنولوجيَّة أكثر كفاءة. فحصول سلطنة عُمان على مراكز متقدِّمة عالَميًّا في مؤشِّرات مِثل التَّرويج للتقنيَّات النَّاشئة، وسدِّ الفجوة الرَّقميَّة بَيْنَ الجنسيْنِ، ومهارات تكنولوجيا المعلومات في التَّعليم، بقدر ما تُشير تلك المؤشِّرات إلى التَّقدُّم في المجال الرَّقمي، بقدر ما تُشير أيضًا إلى تحوُّل في الذهنيَّة الحكوميَّة تجاه المستقبل، فالدَّولة لم تَعُدْ تنظر إلى التكنولوجيا بوصفها أداة إضافيَّة، لكنَّها تعاملها كعنصرٍ رئيسٍ في عمليَّة صنع القرار، وفي تيسير الخدمات، وفي بناء قدرات الأجيال القادمة.. لقَدْ تحوَّلتِ الرَّقمنة في عالَمنا المُعاصر فرضَ عَيْنٍ ولم تَعُدْ خيارًا نقبله أو نرفضه، لقَدْ أضحتْ ضرورةً حيويَّة لأيِّ اقتصاد يسعى للبقاء ضِمن السِّباق العالَمي، لذا فإنَّ ما يتحقق اليوم من تنمية رقميَّة متسارعة لا بُدَّ أنْ يواكبَ بتشريعات مَرِنة، وتعليم نَوْعي، وإرادة سياسيَّة تستوعب أنَّ المستقبل سيُبنى بلُغاتٍ جديدة، ليس أقلّها لُغة البرمجيَّات والمنصَّات الذَّكيَّة. لا يُمكِن لأيِّ تقدُّم تنموي أنْ يرسخَ في غياب منظومة حوكمة متكاملة تحكم الأداء وتكفل العدالة، وتُعزِّز ثقة المواطن، والأرقام الَّتي وردتْ في تقرير تنافسيَّة عُمان بشأن مؤشِّرات الحوكمة تكشف أنَّ السَّلطنة قطعتْ شوطًا مُهمًّا في بناء نموذج إداري يتَّصف بالفعاليَّة والمساءلة، فحصول الدَّولة على أكثر من (70) نقطة في مؤشِّر سيادة القانون، وأكثر من (66) نقطة في مؤشِّر الجودة التَّنظيميَّة، وأكثر من (62) نقطة في مؤشِّر فعاليَّة الحكومة، يؤكِّد أنَّ الحكومة ماضية في الطَّريق الصَّحيح، وأنَّ الحكومة بفضل التَّوجيهات السَّديدة لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ تنظر لتلك الخطوات بجديَّة ولا تنظر لها كمجرَّد تحسينات شكليَّة، وهناك عمل حقيقي يجري خلف الكواليس لتحديثِ آليَّات اتِّخاذ القرار ومراقبة الأداء العامِّ، فالحوكمة أكثر من إجراءات إداريَّة، فهي إطار شامل يعكس مدى التزام الدَّولة بحماية الحقوق، وتوزيع الموارد بعدالة، وتقديم الخدمات بكفاءة، وهذا ما يجعل من هذه المؤشِّرات مرجعًا محوريًّا في تقييم تقدُّم الدَّولة، لا فقط خارجيًّا أمام المؤسَّسات الدّوليَّة، ولكن داخليًّا حتَّى تظلَّ الشَّفافيَّة عنوانًا لنهضة عُمان المُتجدِّدة.