يُمثِّل التَّكافل الاجتماعي أعظم صوَر البناء والتَّنمية المُجتمعيَّة القائمة على تعظيم إنسانيَّة الإنسان، وهي تستشعر مسؤوليَّاتها الأخلاقيَّة وأمانتها التَّاريخيَّة على الأرض، في سُموِّها ورُقيِّها، وانتزاعها أنانيَّة النَّفْس وأثرة الذَّات، لتتجهَ بإرادة واعية، ورغبة أكيدة، وحسٍّ مسؤول، وصدق ضمير إلى خدمة الآخرين وعونهم، والوقوف معهم، ومساعدتهم بالمال والعتاد، في المَكْره والمَنْشط، وقضاء حوائجهم بكُلِّ صدق وإيمان وثقة واختيار، محطَّات تأمل واستشعار للمسؤوليَّة ووقفات خالدة ماجدة، ومواقف عظيمة حقَّ لها أن تسجلَ بأحْرُف من نور، يتخلى فيها الفرد عن فوقيَّته، فيتماهى مع المُجتمع بقلبه وعقله وفكره وإنجازاته، فيقدِّم مصلحة الآخرين على نفسه، وينزِّه نفسه عن كُلِّ أشكال الأنانيَّة والأثرة والغرور، وينزل من حاجز السُّلطة ليشاركَ المُجتمع أهدافه وغاياته، ويضحِّي بوقته وجهده من أجْلِ إسعادهم، نافذة للحياة في ظلِّال الإسلام والسَّلام والأمن والإنسانيَّة والتَّسامح والوئام والرَّحمة والعطف والمسؤوليَّة والواجب، يستوعب الظُّروف الَّتي يمرُّ بها الآخر، ويقف على واقع التَّحدِّيات الَّتي يواجهها المختلف والمشترك، فإنَّها في الوقت نفسه أعطتْ صورة مشرقة للرُّوح المعنويَّة العالية والتَّآلف والانسجام بَيْنَ مكوِّنات البيت العُماني (المؤسَّسي والمُجتمعي) والسَّلام الدَّاخلي الَّذي يعيشه أبناء عُمان في قراءة الظُّروف الاقتصاديَّة ودعم الأُسر المعسرة، في استنطاق للمبادئ والقِيَم والأخلاقيَّات واستحضار للعادات والتَّقاليد والعلاقات والإجراءات الَّتي عمل المُجتمع على الإبقاء على وجودها حاضرة أصيلة في ممارساته، جسور أمان ممتدَّة مع الذَّات والآخر، وخيوط اتصال عالية التأثير تحافظ على درجة التَّوازنات في السّلم الاجتماعي، فإنَّ قوَّة المُجتمعات ونهوضها التَّنموي ووعيها الجمعي يكمن في تضامن أفرادها، وتكاتفهم كالجسد الواحد. وتمثِّل الأعياد والمواسم الدينيَّة فرصة للتَّأمل ومحطَّة للتَّراحم والتَّكافل الاجتماعي، حيثُ تتجلى فيها معاني التَّضحية والتَّكافل الاجتماعي وتتأصل فيه قيمة العطاء والصَّدقة، حيثُ تمثِّل الأضحية إحدى أبرز سُنن عيد الأضحى تعظيمًا لشعائر الله وتقربًا إِلَيْه. غير أنَّ الكثير من الأُسر المعسرة تجد من الصُّعوبة والمشقَّة ما يمنعها من توفير متطلبات العيدين والظُّهور بالمستوى المقبول اجتماعيًّا، لذلك تبرز في هذا السِّياق الحاجة إلى تعزيز المنصَّات والمنابر الخيريَّة الَّتي تؤسِّس في المُجتمع مفهوم التَّكافل الاجتماعي، حيثُ جاءتْ مبادرة وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة مشكورة بإطلاق منصَّة «جود» الخيريَّة، الَّتي تمثِّل نقلة نوعيَّة في مسار العمل الخيري الرَّقمي في سلطنة عُمان من خلال تعظيم دَوْر التِّقنية في تحقيق التَّكافل الاجتماعي الرَّقمي؛ نظرًا للميزة التنافسيَّة الَّتي تحقِّقها التقنيَّة حيثُ تضم اليوم أكثر فئات المُجتمع، ناهيك عن فرص الموثوقيَّة والشفافيَّة والوقت الَّذي تتيحه في الوصول إِلَيْها في أيِّ زمان ومن أيِّ مكان، بِدُونِ عناء أو استهلاك للجهد، أو صعوبة في الوصول إلى مواقع تقديم تلك التَّبرُّعات، هذا الأمْر أتاح للصَّغير والكبير والمرأة والرَّجُل والمُقْعد على فراشه وكبار السِّن في التَّبرُّع، لصالح مشروعات محدَّدة ضمنتِ المنصَّة إيصالها للمستحقين بكُلِّ شفافيَّة ووضوح ومهنيَّة واحترافيَّة ومصداقيَّة. لقد شكَّل وجود منصَّة «جود» تحوُّلًا نوعيًّا في مسيرة العمل الخيري وتجسيدًا لمسار الحوكمة الَّتي تأخذ في أحد اعتباراتها تعظيم القِيمة المضافة للتِّقنية في العمل الخيري والتَّبرُّع، وفق إطار مؤسَّسي وتشريعي واضح المعالم، تقرأ خلاله منظومة التَّكافل الاجتماعي عَبْرَ رؤية عصريَّة تراعي الخصوصيَّة العُمانيَّة وتستوعب طبيعة الفئات المستهدفة ومستوى الاحتياج الاستهلاكي اليومي للأُسرة؛ بالإضافة إلى توليد صورة إيجابيَّة لدى الأُسر، تستشعر فيه ما يقدَّم لها عَبْرَ هذه المنافذ، في احترام للمورد وتعظيم له وتقدير للجهود المبذولة فيه. لذلك تتجه الأنظار إلى دَوْر المنصَّة في هذه الأيَّام العشر المباركة من ذي الحجَّة في دعم الأُسر المعسرة في توفير احتياجات الأُسر، من خلال تمويل الأضاحي وتوزيعها على الأُسر المعسرة بما يَضْمن تمكُّن الأُسر المعسرة من المشاركة في هذه الشَّعيرة الدينيَّة. ليمتدَّ ذلك إلى توفير مستلزمات العيد وكسوة الأطفال، أو توفير المواد الاستهلاكيَّة الَّتي تحتاجها الأُسرة من الطَّعام والتَّموين الغذائي، أو من خلال الدَّعم النَّقدي للأُسر لتمكينها من شراء احتياجات العيد. عَلَيْه، لم تَعُدْ منصَّة «جود» مجرَّد وسيلة لتوزيع المساعدات، بل أصبحتْ إطارًا مؤسَّسيًّا متكاملًا يقرأ واقع الاحتياج والإعسار، ويفهم أسبابه، بل إنَّها تعمل على قراءة الظُّروف والمتغيرات والعوامل الَّتي تشكِّل هذا الإعسار، وفَهْم أبعاده والوقوف على حيثُياته وأسبابه وتقديم أُطر بديلة وخيارات واسعة وتعمل على معالجتها بطُرقٍ مبتكرة. من خلال الرَّبط المباشر مع قواعد بيانات وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة، الأمْر الَّذي ضمن لمنصَّة «جود» الخيريَّة، الرِّيادة الشَّفافيَّة والواقعيَّة والثِّقة. وقد أسفرتْ جهود المنصَّة، منذُ إطلاقها في أكتوبر 2023، عن نتائج ملموسة، حيثُ بلغ عدد المتبرِّعين حتَّى نهايّة عام 2024 (168.747) ألف متبرِّع، بإجمالي تبرُّعات بلغتْ (2.551.923) ريالًا عُمانيًّا، واستفاد من هذه التَّبرُّعات أكثر من (317) ألف أُسرة عَبْرَ لجان التَّنمية الاجتماعيَّة والفِرق التَّطوعيَّة. كما دعمتِ المنصَّة حملات إغاثيَّة بإجمالي تبرُّعات بلغ (174.213) ألف ريال عُماني، وأعطتِ المنصَّة اليوم شواهد إيجابيَّة على مستوى حضور الوعي الجمعي والتَّبرُّع في فِقه المُجتمع وثقافته وأزالتِ الصورة القاتمة أو الشَّكل الأحادي لمفهوم التَّطوُّع والتَّبرُّع والعمل الخيري في إقصاره على شكل واحد، بَيْنَما يتجه اليوم عَبْرَ منصَّة «جود» الخيريَّة إلى خيارات واسعة تخدم شريحة أكبر في المُجتمع ليسعَ الأُسر المعسرة وذات الاحتياج والحالات الفرديَّة والجماعيَّة خيرها عدلها، حيثُ أظهرتِ الإحصائيَّات أنَّه بنهاية عام 2024، بلغ عدد الأُسر المستفيدة من المساعدات المقدَّمة من لجان التَّنمية الاجتماعيَّة والفِرق التَّطوعيَّة التَّابعة لها (317,463) أُسرة، بإجمالي مبالغ مصروفة بلغ (25,506,062) ريالًا عُمانيًّا. على أنَّ الميزة التَّنافسيَّة الَّتي يُمكِن قراءتها في ظلِّ نماذج الرَّصد المتحقِّقة من منصَّة «جود» الخيريَّة؛ كونها تعمل ضمن إطار وطني موحَّد تُشرف عَلَيْه وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة، ممَّا يسهل على المتبرِّعين الوصول إلى الجمعيَّات والفِرق الخيريَّة دُونَ الحاجة لزيارتها شخصيًّا؛ ويؤسِّس هذا التوجُّه لمرحلة جديدة في العمل الخيري بسلطنة عُمان، تقوم على الحوكمة والاحترافيَّة، وتفتح المجال أمام مزيدٍ من الابتكار في طرق تقديم الدَّعم؛ ذلك أنَّ تراكم التَّحدِّيات الاقتصاديَّة واتِّساعها والَّتي تظهر من خلال ارتفاع أعداد الأُسر المعسرة المسجَّلة في المنصَّة، تُحتِّم توفير أدوات دعم مَرِنة وقادرة على مواكبة المتغيرات. وقد نجحت منصَّة «جود» في ملء هذا الفراغ، حيثُ وفَّرت للمتبرِّعين بيئة رقميَّة آمِنة وفعَّالة تُسهم في بناء مُجتمع متماسك متكافل، تتعزز فيه روح التَّعاون والمسؤوليَّة، ويُعاد فيه إنتاج القِيَم الأصيلة الَّتي تُميِّز المُجتمع العُماني، الأمْر الَّذي ضمن إيصال المساعدات لمستحقِّيها بسهولة ويُسر، فإنَّه ضمن في الوقت نفسه، شفافيَّة التَّبرُّع، حيثُ تتيح المنصَّة تتبُّع أثَر التَّبرُّع ومجالات صرفه، ودقَّة الوصول للفئات الأشدّ حاجة من خلال الرَّبط المباشر مع قواعد بيانات الأُسر المحتاجة، وسهولة الاستخدام بفضل التَّحديث المستمر للمنصَّة وسرعة إنجاز الإجراءات ممَّا يعكس حجم الثِّقة المُجتمعيَّة المتزايدة في المنصَّة. من هنا يُمثِّل عيدا الأضحى والفطر والمواسم الدينيَّة الأخرى نموذجًا حيًّا في التَّعبئة للقِيَم الوطنيَّة؛ محطَّات أصيلة وشواهد إثبات على أخلاق العُمانيِّين وهُوِيَّتهم الدينيَّة وتجسيدهم قِيَم التَّضامن والتَّعاضد المُجتمعي والتَّكافل الاجتماعي، لترويَ حكاية منصَّة «جود» الخيريَّة عبير هذا الإرث العُماني الأصيل، لِتبْنيَ في أبناء عُمان الأماجد نبل الكرم وفضيلة التَّبرُّع، والمبادرة في توليد الحلول وإنتاج المستلزمات الدَّاعمة لمعالجة الظُّروف الاقتصاديَّة الَّتي يعيشها أبناء مُجتمعهم وتجريب الأخلاق في مواقع العمل وميدان الممارسة ومنصَّات الالتزام وقواعد السُّلوك الَّتي أنتجتِ العديد من المبادرات والأفكار والنَّماذج الَّتي ابتكرها أبناء عُمان في مساعدة أهلهم وبني جلدتهم، فإنَّ دعم الأُسر المعسرة ليس فقط واجبًا إنسانيًّا، بل هو خيوط ممتدَّة لمُجتمع قوي متماسك متعاون متفاعل متحاب، يصنع من المواقف والأحداث حياة جديدة ونافذة متجدِّدة عنوانها التَّسابق والمسارعة في الفضل وعظيم الأجر بالتَّبرُّع عَبْرَ منصَّة «جود» الخيريَّة. وفي ختام كُلِّ موسم من مواسم الخير، تظهر بوضوح نتائج هذه الجهود في وجوه الأطفال والأُسر المعسرة الَّذين يشعرون بفرحة العيد، وبأنَّهم جزء لا يتجزأ من نسيج مُجتمعي حيّ، لا يترك أحدًا خلفه. فمنصَّة «جود» ليسَتْ مجرَّد مبادرة عابرة، بل هي تجسيد حيٌّ لقِيَم عُمان الحضاريَّة والإنسانيَّة، ونموذج فاعل لــكيف يُمكِن للتِّقنية أن تكُونَ وسيلة لنشرِ الرَّحمة وتعزيز الاستدامة في العمل الخيري؟
د.رجب بن علي العويسي