إنّ للحج وتعاليمه أهدافًا، ومقاصد، وغايات، وحِكَمًا دينية وروحية، نحاول هنا وفي تلك السطور ذكر معظمها، ولا يمكننا استقصاؤُها، ولا المجيء على آخرها؛ لأنها كثيرة ومتعددة، ومتشعبة، ومتنوعة، فنذكر منها الآتي: 1ـ إخلاص الطاعة لله، والعبادة لعظمته، وتوجيه القلب، والعقل، والروح لعبادة الله، وحسن الولاء لله، وتوحيد التوجُّه لله، وعدم الشرك مع الله أحدًا، والذهاب بكلية المرء إلى ربه، والانخلاع لله، والخشوع له سبحانه، وصدق البكاء بين يديه، وكمال الخضوع لقيوميته؛ ومن ثم نقرأ قوله تعالى:(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ..)، فمنذ إعلام الله مكانَ البيت لسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ وتبويئه له كان الهدف، والغاية من بنائه، وإقامته هو عدمُ الشرك، وترسيخُ التوحيد بكل نقائه، وصفائه، وجلائه في قلوب المؤمنين، وأن الشرك محرمٌ تماما بكل أطيافه، وأصنافه، ويأتي تنكير(شيئًا) ليفيد محوَ كلِّ ألوان الشرك، وكل ما كان منتشرا عند العرب من شركيات، ووثنيات، وعبادة للأصنام، وتصفية كلِّ الأعمال؛ لتكون خالصة لله، مقدَّمة لابتغاء مرضاة الله، وحسن التوجه له، وصدق الخضوع بين يديه، والخشوع المحوط بالدموع؛ رجاء أن يتفضل بالقبول، وأن يتقبل طاعاتهم، وألا يحرمهم قبول عباداتهم، ووسائل ذلك هي تطهير مكان التوجه من كل المسلمين، وهو البيت الحرام، والكعبة المكرمة، كما في قولهتعالى:(وطهر بيتيلِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود) بفعل الأمر:(طَهِّرْ) الذي يفيد النصح والإرشاد، ونسبة البيت لله تعالى:(بيتي) للتشريف، والتعظيم، والتبجيل، فهو بيت الله؛ ومن ثم فتطهيره تشريفٌ لكل مَنْ يقوم بذلك، وذكر القرآن الكريم أصنافَ العابدين:(الطائفين) الذين يطوفون بالبيت الحرام في أول عباداتهم، وهو(أي: الطواف) تحية البيت الحرام، وقد يكون لأناسٍ يزيدون ثوابهم بالطواف؛ نزولا على قوله تعالى:(ومن تطوع خيرًا فهو خيرًا له)، فهناك أناسٌ أنهوا عمراتهم، أو حجهم، ولكنهم يُدْمِنُونَ الطواف حول الكعبة، مسبحين، وذاكرين، وباكين، ودَاعِينَ، ومنهم (القائمون) بالصلاة:ركوعًا، وسجودًا، ودعاء، ومنهم (الرُّكَّعُ)، جمع تكسير للكثرة للمفرد (راكع)، ويدل على كثرتهم، وتعددهم، ومنهم (السجود)، جمع (ساجد)، ومعنى ذلك أنهم في حالة صلوات متتابعة، فلو رصدنا كل حركات الموجودين في المسجد الحرام فإننا نتيقن من وجود جميع المصلين بكل هيئات الصلاة: قيامًا، وركوعًا، وسجودًا، وطوافًا، ودعاءً، فهم في حالة عبادة، ونشاط، وتتابع للطاعة، فأول تلك المقاصد الروحية هو الأخذ بأيدي المؤمنين إلى قضية التوحيد، وانتفاء الشرك الذي اعتاده العربُ قبل الإسلام، وكان منتشرًا بينهم، وما أعداد الأصنام التي رَبَتْ على الثلاثمائة والستين صنمًا ببعيد، حيث كانت تُعبَد من دون الله، وتقديم القربات، والقرابين لغير الله، فجاء الحجُّ، ومقاصده، وغاياته بالعمل على انتشالهم من وَهْدَةِ الشرك، وعَطَنِه، وضيق أفق المشركين، وضياع حياتهم، وأعمارهم، إلى نور الإيمان، وتوحيد العبادة، وتنقية الطاعة من أيِّ شركيات، وتوجيه لها لغير الله، إلى التوجه لله الواحد، الأحد، والتوجه لرب السموات، والأرض، وتقديمها خالصة له ـ سبحانه وتعالى ـ والتخلي تمامًا عن كل لون من ألوان الشرك، والابتعاد عن كل ما يدخله في دائرة الرياء، وتقديم الأعمال لغير الله، وحتى لا يضيع العمل هباء، ولا يكون له أي ثواب، ولا أجر. 2 ـ إن أكمل مقصد، وأشمل غاية، وأوسع حكمة من مقاصد، وغايات، وحكم هو توحيد العبادة لله، وتوجيه كلِّ الطاعات، والعبادات لله وحده، لا لغيره، وأصبح العمل كله متوجَّها به لله ـ جلَّ جلاله ـ وأمسى العربُ موحدين لله، مخلصين لربهم، يبتغون رضاه، ويرجون مغفرته، ورحماه، وجليل عطائه، ونعماه، وأن قلوب المؤمنين قد صَفَتْ لله، ونُقِّيَتْ له، وأُخْلِصَتْ له، وأمْسَتْ لا تقدِّم عملًا لغير الله، وعَلَتْروحيًا نفوسُهم، وارتقت قلوبهم، وسَمَتْ أنفسهم حول علاقتهم بربهم، وصلتهم بمولاهم، وأمسوا كبارًا، أبرارًا، وأطهارًا. 3 ـ ومنه أن المؤمنين صارتْ حيواتُهُم كلهم، ونسكهم، وعباداتهم وطاعاتهم، حتى مماتهم نفسه كل ذلك جعلوه لله رب العالمين، والإنسان يتعجب كيف يكون المماتُ لله، فالمرء يفهم أن تكون الحياة لله، لكنْ، كيف يكون الممات كذلك لله، ولكنْ نعلم أن ذلك يأتي تعميقا لمفهوم الولاء، والبراء لله، فصارت أمورهم جميعًا: حياة ومماتًا، ونسكا، وصلاة ًكلها علوية، يتقدمون بها لله، وابتغاء مرضاته، وكان الحج كفريضةقد تسبَّبَتْفي ذلك، وكانت سببًا مباشرة في حصوله، حيث كان الحج أكبر عملٍ يُشرِك به العرب قبل الإسلام مع الله سواه:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، فصار الحج مصفِّيًا لقلوبهم، ومنقِّيًا لقلوبهم، وراقيًا بعقولهم، وأرواحهم إلى ربهم، وفهموا خطأهم على طول حياتهم: أنهم كانوا مشركين بالله، وضيعوا أعمارهم بوثنياتهم، وعباداتهم للأصنام، فصار العرب بعد الإسلام عبادًا، أبرارًا، وخاضعين لله، أطهارًا، ونفوسهم صارت كبارًا، وتوجَّهوا بكل أعمالهم، ونسكهم، وحياتهم ومماتهم لربهم، لا يتوجهون لسواه، ولا يستأهل أحدٌ غيرُ الله أن يُتَوَجَّه إليه بأي شيء؛ لأنه بشر، وليس ربا، ولا إلها قال تعالى:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، فصارت حياتهم غالية، وأرواحهم سامية، وقلوبهم راقية، وأعينهم لربهم باكية، وعادت حياتهم كريمة على ربهم، وكان الحج، ومقاصده، وحكمه، وغاياته كثيرة، وأخذة بأيديهم إلى ربهم، ومولاهم، وإلههم، وحبيبهم، فتغيَّرت إلى الأفضل أحوالهم، وزَكَتْ أنفسهم، وارتقت اهتماماتُهم، وصفت أعمالُهم من كل شرك، ورياء، وأمست في صفاء، ونقاء، ولم يعد هناك أي شرك، ولا رياء. 4 ـ ومنها أن يتعلم أهلُ الإيمان تعاليمَ دينهم، وخصوصا فريضةَ الحج في المسجد الحرام، فيقفوا عليها، ويتقنوها، ويقوموا بها صحيحة، سليمة، فيها اتباع، واقتداء بالرسول الكريم، يقول الله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُون، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، فسؤالُ أهل الذكر واجبٌ عند عدم العلم، والعبادة في الإسلام اتباع، وليس فيها أيُّ ابتداع، فجمالُ العبادة والدين الاتباعُ، وجمالُ الدنيا الابتداعُ، والسبيل الوحيد هو العلم، والفهم، وسؤال أهل الذكر، وأن التعلم فَرْضٌ على كل مؤمن. 4 ـ ومنها كذلك أن الحج فيه كلُّ فرائض الإسلام، من النطق بالشهادتين، والصوم، والزكاة، وبالطبع الحج،وشرح ذلك كالآتي:أن فيها شهادةَ أن لا إله إلا الله، وذلك وارد في قول الحجاج: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، وكل الحج ذكر لله، وشكر، وخضوع، وتسليم تام لله، وإذعان كامل لعظمته، وكمال وجلال قيوميته، وفيها الزكاة؛ حيث إن الوقت الذي يصرفه الحاجُّ في أعمال الحج، كان من الممكن أن يأخذ عليه مالا، لكنه يتركه لله كزكاة، كما يفعل المزكِّي في صرف مال للهنتيجة عمله، وبذل شيء من وقته لتحصيل رزقه، هذا المال يطهِّر به نفسه، وعمله، ويكون تنظيفا لأعماله مما شابها من رياء، أو شبهة من الشبهات، فما يُصرَف من وقت يُعَدُّ زكاة بالمفهوم السابق، كما أن فيه صومًا عن كل الصفات السيئة، والأخلاق الهابطة، وفيه ابتعاد عن المحرمات، كأنه صوم، وفيه حجب للنفس عن عمل الدناءات، وتحجيم لها عن النزول إلى سفاسف الأمور، والأعمال الدنيئة، كما يتطلب الصومُ، كما أن الصلوات، وكل أعمال الحج يكون الحاج فيها مبتعدًا عن الأكل، والشرب، وعدم عمل ما هو خارج عن أحكام الحج، كما أنه حج، أي فيه الركن الأخير من أركان الإسلام، ففي الحج كلُّ الفرائض، وما فيها من أهداف، ومقاصد، وحكم، وغايات، والحج يزكِّي كل ذلك في المسلم، ويرسخها فيه، ويعمقها في قلبه، وروحه وذاته، وعقله.. 5 ـ ومنها التميز والتفرد عن الأمم السابقة بالتوجُّه نحو بيت الله الحرام، فهو توجه نحو بيت واحد، وسير خلف نبي واحد، في فرض هو مميز عن بقية الديانات الأخرى، وبهيئاتٍ، ومواصفات خاصة، ويكفي أن كلِّ المسلمين يتوجهون إلى عرفات الله، وهو مكان واحد، وإلى بيت الله، وهو الكعبة التي لا تتكرر في أي مكان آخر، وكل مشاعر الحج من الوقوف بمنى، والذبح، والفداء والمشعر الحرام(مزدلفة)، والسعي، والطواف، والحلق، أو التقصير، ورمي الجمرات، والذكر المتواصل، وأعمال الحج كلها التي نرى فيها التميز، والتفرد وتوحيد الزي:(إزار ورداء) أبيضين، وتلبية واحدة، تجري على كل ألسنة الحجيج، والوقوف بعرفة، وهو ركن الحج الأكبر، ففي الحج يقول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم:(وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف)، ويقول:(الحج عرفة)، وكل ذلك قد ميَّز الله به الأمة المسلمة في حجها، ووقوفها، وطوافها،وإفاضتها، ورميها، وحلقها، وتقصيرها، وكله يدفع إلى الاعتزاز، والتميز، وحسن التوجه لله، رب العالمين. 6 ـ ومنه التكافل، والتعاون بين المسلمين؛ حيث إن أيَّ خطأ في الحج له حُكْمُهُمن الفداء، ونحوه، وهو مبثوث في كتب الفقه، وكل تلك الذبائح تعود إلى البيت العتيق، ويأكل منها فقراء المسلمين، ليس فقط في مكة المكرمة، وإنما توزَّع على دول العالم الإسلامي بعد انتهاء أعمال الحج، حيث تنطلق الطائرات إلى كل بلدان الأرض؛ لتوصيل الأضاحي، والذبائح إليها؛ ليتذوق المسلمون طعم التآخي، وجمال التكافل، ومعنى الأخوة الإسلامية العامة الشاملة. 7 ـ ومنها كذلك الذكر الجماعي في التلبية، وذكر الله المتتابع؛ لأن أكثر آيات الحج فيها الذكر قد تكرر كثيرًا، نحو:(واذكروا الله في أيام معدودات..)، و(اذكروه كما هداكم..)،(فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اله عند المشعر الحرام..)، ومعظم آيات الحج تعجُّ بالذكر لله رب العالمين، وكذلك عقب الصلوات المفروضة، طيلة أيام التشريق هي ذكر، وشكر لله، وفي الحديث الشريف:»إنها أيام أكل وشرب، وبعال، ذكر، وشكر لله تعالى.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية [email protected]