في مشهدٍ طغَتْ فيه الرَّمزيَّة على البروتوكول، استقبل حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ فخامة الرَّئيس الإيراني الدّكتور مسعود بزشكيان بحفاوةٍ رَسمتْ ملامح مرحلة جديدة في العلاقات بَيْنَ البلدَيْنِ، لم تكُنِ الخيَّالة السُّلطانيَّة، أو أصوات المدافع، أو عَزْف النَّشيد الوطني الإيراني، تفاصيل عابرة في مراسم استقبال رسمي، بل كانتْ مرآة لهُوِيَّة عُمان الدبلوماسيَّة الَّتي تنحاز دائمًا للهدوء والعمل مع الجميع وفْقَ مصالح مشتركة راسخة. وحين خرج جلالة عاهل البلاد المُفدَّى بنَفْسِه لاستقبال فخامة الرَّئيس الضَّيف، كانتِ الرِّسالة واضحة، وهي أنَّ هذا لقاء لا تحكمه اعتبارات موسميَّة، وإنَّما تاريخ ممتدٌّ من التَّفاهم والجوار والتَّبادل؛ ذلك أنَّ سلطنة عُمان تدرك أنَّ بناء العلاقات لا يتمُّ عَبْرَ الكلمات فقط، بل عَبْرَ إشارات ذكيَّة تنبع من الوجدان السِّياسي، تترجم في سُلوك الدَّولة، وتؤسِّس لمنظور مختلف للعلاقات الدّوليَّة في زمنٍ متقلِّب.. ومع دخول فخامة الرَّئيس الضَّيف قَصْرَ العَلَم العامر بدَا أنَّ هذه الزِّيارة تفتح أبوابًا جديدة للتَّواصُل الحقيقي، وتُعبِّر عن فَهْمٍ مشترك بأنَّ المرحلة القادمة تحتاج لجسورٍ لا حواجز، ورؤية عقلانيَّة تحفظ مصالح الجميع، لم تصمم فقط لتبادل التحيَّة، بل في الجلسة الرَّسميَّة الَّتي جمعتِ القائديْنِ، برزَ الإدراك العميق لحجمِ التَّحدِّيات والفرص في الإقليم، ولم تكُنِ المباحثات استعراضًا دبلوماسيًّا معتادًا، بل مناقشة هادئة لمسارات تعاون حقيقيَّة في ظلِّ تحوُّلات متسارعة تشهدها المنطقة والعالَم أجمع. لذا تركَّزتِ المباحثات على تعزيز الشَّراكة بَيْنَ البلدَيْنِ في مجالات الاقتصاد والتَّعليم والصِّناعة والخدمات الصحيَّة، وهي ملفَّات ترتبط بشكلٍ مباشر بجودة حياة المواطن وتقدُّم المُجتمع في كلا البلدَيْنِ الجارَيْنِ. فالطَّرفان ناقشا الواقع الإقليمي بِعَيْنٍ متوازنة تبحثُ عن الحلول، وليس الاصطفاف، واتِّفاق ضِمني على أنَّ بناء السَّلام والاستقرار في المنطقة يتطلب أدوات اقتصاديَّة ومعرفيَّة قويَّة، وكان واضحًا أنَّ هذه الجلسة، الَّتي أعقبها لقاء ثنائي خاصٌّ، أرسَتْ قاعدةً من الثِّقة والوضوح بَيْنَ القيادتَيْنِ، وهي أنَّ هناك إرادةً سياسيَّة حقيقيَّة لِنَقْلِ العلاقات إلى مستوى جديد من التَّعاون البنَّاء المُثمر، بمنهجيَّة تتعامل مع العالَم بمرونةٍ وكرامة وواقعيَّة، وهي ذاتها السِّمات الَّتي ميَّزت السِّياسة الخارجيَّة العُمانيَّة لِعُقودٍ. أمَّا على الصَّعيد العملي فقَدْ حصدتِ الزِّيارة نتائج ملموسة عكستْ جدِّيَّتها وجدواها، تمثَّلتْ في توقيع عددٍ كبير من الاتفاقيَّات ومذكّرات التَّفاهم والبرامج التَّنفيذيَّة بَيْنَ البلدَيْنِ، شملتْ قِطاعات استراتيجيَّة تَمسُّ بنية الدَّولة واقتصادها وحراكها الاجتماعي. خمس اتفاقيَّات رسميَّة، وعشر مذكّرات تفاهم، وثلاثة برامج تنفيذيَّة، خرجتْ من هذا اللِّقاء، وكُلُّ واحدة مِنْها تحمل بُعدًا وظيفيًّا قابلًا للتَّطبيق، لا مجرَّد التَّفاهم النَّظري. فالاتفاقيَّات غطَّت ملفات كالتَّعاون القضائي، وتشجيع الاستثمار، وربط الطَّاقة، والمشاريع الصَّغيرة، والتَّعليم المهني، وهي خطوات تؤشِّر إلى رغبة واضحة في التَّكامل لا التَّنافس. وهذا النَّوْع من الاتِّفاقات لا يُبنى في يوم، بل يحتاج إلى إرادة سياسيَّة، وثقة متبادلة، ومهارات تفاوض عالية، وهو ما ظهرَ بجلاء في لقاءات القائدَيْنِ والوزراء. فعُمان أثبتتْ مُجدَّدًا أنَّها قادرة على بناء مساحات مشتركة مع الجميع، دُونَ أنْ تذوبَ أو تنعزلَ، وأنَّها تُدير علاقاتها الدّوليَّة بطريقةٍ عمليَّة تحوِّل اللِّقاءات السِّياسيَّة إلى نتائج على الأرض يستفيد مِنْها المواطن قَبل أيِّ طرفٍ آخر. ولأنَّ القوَّة النَّاعمة لا تقلُّ أثرًا عن أدوات السِّياسة الصُّلبة، فقَدْ كان للبُعد الثَّقافي حضورُه القوي في ختام الزِّيارة؛ وذلك عَبْرَ تدشين الطَّابع البريدي المشترك بَيْنَ سلطنة عُمان والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، والَّذي لم يكُنْ فعلًا شكليًّا، وإنَّما رسالة مكتوبة بلُغةِ الرُّموز عن إرثٍ مشترك واحترام متبادل، حيثُ أراد الطَّابع ـ بكُلِّ ما يحمله من تصميم وفكرة ـ أنْ يقولَ إنَّ العلاقة بَيْنَ البلدَيْنِ تتجاوز المصالح الوقتيَّة، وتمتدُّ إلى عُمقٍ ثقافي وإنساني يجمع الشَّعبَيْنِ. وفي موازاة ذلك، جاءتْ لقاءات فخامة الرَّئيس الإيراني مع المستثمِرِين وروَّاد الأعمال لِتضعَ البُعدَ الاقتصادي في سياق شَعبي مباشر، حيثُ شاركَ القِطاع الخاصُّ في صُنع التَّصوُّرات، لا في انتظار التَّعليمات. إنَّ هذه الزِّيارة، الَّتي جمعتِ الرَّسميَّ بالمَدَنيِّ، والسِّياسيَّ بالثَّقافيِّ، أثبتتْ أنَّ العلاقات القويَّة لا تُبنَى فقط في القصور، بل أيضًا في قاعات المؤتمرات وحلقات العمل والمشاريع المشتركة، وبذلك، قدَّمتْ عُمان وإيران نموذجًا في كيف يُمكِن للدوَل أنْ تكتبَ فصلًا جديدًا في العلاقات، دُونَ خصامٍ أو وصاية، وإنَّما من خلال الاحترام والتَّفاهم والعمل الجادِّ المشترك.