السبت 31 مايو 2025 م - 4 ذو الحجة 1446 هـ

أوروبا نحو آسيا

أوروبا نحو آسيا
الأربعاء - 28 مايو 2025 05:25 م

د.أحمد مصطفى أحمد

10

يبدو الهدف الرَّئيس من جولة الرَّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الآسيويَّة، حسب شعارها المعلن، هو إقناع دوَل بأنَّ فرنسا «شريك موثوق يحترم سيادة هذه الدوَل واستقلالها بمنطقة ينحصر فيها النُّفوذ بَيْنَ الولايات المُتَّحدة والصِّين». ظهر ذلك بوضوح في المحطَّة الأُولى من جولته حيثُ وقَّعت فرنسا مع فيتنام عدَّة اتفاقيَّات اقتصاديَّة وتجاريَّة. كذلك هو الحال في زيارته لإندونيسيا وسنغافورة. كما أنَّ اجتماع الرَّئيس الفرنسي مع الأمين العامِّ لرابطة دَول جنوب شرق آسيا (آسيان) قد يأتي في السِّياق ذاته. لكنَّ زيارة ماكرون لتلك الدوَل الآسيويَّة، الَّتي سبقَها قَبل أيَّام اتِّصال للمستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس بالرَّئيس الصِّيني شي جين بينج لبحثِ العلاقات بَيْنَ البلدَيْنِ، تُعَدُّ مؤشِّرا على توَجُّه أوروبا نَحْوَ الشَّرق بشكلٍ جدِّي. وهذا أمْر مفهوم تمامًا في ظلِّ سياسات الإدارة الأميركيَّة الجديدة للرَّئيس دونالد ترامب الَّتي تستهدف أوروبا بالعقوبات ورسوم التَّعريفة الجمركيَّة. صحيح أنَّ التِّجارة والاقتصاد هما قَبل ذلك التَّحوُّل الأوروبي، إلَّا أنَّ الأمْر يذهب إلى ما هو أعمق في سياق تماسك التكتُّل الغربي في السَّنوات الأخيرة. فلم يَعُدِ «الميثاق الأطلسي» الَّذي وقَّعه رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشيرشل والرَّئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1941 معترفًا به أساسًا، على الأقل من جانب إدارة ترامب الحاليَّة. حتَّى الإدارة الأميركيَّة السَّابقة للرَّئيس جو بايدن لم تكُنْ علاقتها مع أوروبا سوى محاولة لاستعادة ريادة أميركا عالَميًّا بإسناد تحالف غربي قوي تَقُوده. وسواء اتَّفقنا مع الرَّأي القائل بأنَّ إدارة بايدن كانتْ وراء إشعال حرب أوكرانيا أم لا فإنَّ سُلوك إدارة بايدن مع أوروبا لم يكُنْ سوى استغلالها رديفًا لأهدافها الاستراتيجيَّة، سواء ضِمن تحالف غربي يدعم مكانة واشنطن أو في الصِّراع من أجْلِ حصار روسيا والصِّين. ليس أدلَّ على ذلك من أنَّ الضَّغط لحظرِ استيراد أوروبا النِّفط والغاز من روسيا تحوَّل إلى مئات مليارات الدولارات الَّتي جنتها شركات الطَّاقة الأميركيَّة الكبرى من تصدير النِّفط والغاز لدوَل أوروبا. هذا في الوقت الَّذي استنزفت فيه أوروبا مالًا وسلاحًا لدعمِ كييف. زادَ الرَّئيس ترامب على ذلك فرض رسوم تعريفة جمركيَّة على الاتِّحاد الأوروبي زادها مؤخرًا إلى نسبة خمسين في المئة. فضلًا عن تكرار قوله إنَّ أوروبا تستغلُّ الولايات المُتَّحدة، بل ويطالب في منشوراته على مواقع التَّواصُل بأن تدفعَ أوروبا لأميركا ثَمَن حمايتها عسكريًّا حتَّى ضِمن حلف النَّاتو. كُلُّ ذلك جعل الأوروبيِّين يبحثون عن مصالحهم في محاولة لتقليل الاعتماد على الشَّريك الأميركي. وإذا كانتْ إدارة بايدن السَّابقة سعَتْ إلى أن تفكَّ أوروبا ارتباطها بروسيا والصِّين فإنَّ الإجراءات الأخيرة لإدارة ترامب تدفع دوَل أوروبا نَحْوَ تعزيز علاقتها مع الصِّين ودوَل آسيا، أي التَّوَجُّه شرقًا طالما الغرب عَبْرَ الأطلسي يضع القيود والعراقيل. في الوقت نَفْسه، يصعب على الأوروبيِّين فكُّ الارتباط بأميركا وبالتَّالي ليسَتْ هناك رغبة حاسمة في توسيع العلاقات مع الصِّين أو العودة للعلاقات مع روسيا. على سبيل المثال، ما زالتْ أوروبا ترَى أنَّ الصِّين تغرق أسواقها بالسِّلع والمنتَجات عالية التَّنافسيَّة مع منتجاتها المحليَّة. لذا ما زالتْ دوَل أوروبا تفرض رسومًا عَلَيْه على السيَّارات الكهربائيَّة الصِّينيَّة الَّتي تغزو أسواقها على حساب السيَّارات الكهربائيَّة الأوروبيَّة. تُشير زيارة ماكرون لدوَل من مجموعة آسيان إلى أنَّ أوروبا رُبَّما تريد التَّوَجُّه شرقًا، لكن في الوقت نَفْسه تحافظ على عدم إغضاب واشنطن بتطوير علاقتها بالصِّين. وفي هذا السِّياق أيضًا يعمل الاتِّحاد الأوروبي على تسريع التَّوَصُّل لاتفاقيَّة تجارة حُرَّة مع دوَل مجلس التَّعاون الخليجي الَّتي يجري التَّفاوض بشأنها منذُ سنوات طويلة. ولعلَّ العنوان الَّذي طرحته جولة الرَّئيس الفرنسي يحمل دلالة مُهمَّة جدًّا، وهي مسألة التَّعامل بنديَّة مع الدوَل الآسيويَّة واحترام سياساتها الداخليَّة. فلطالَما كانتْ مُشْكلة الاتِّحاد الأوروبي في التَّعامل مع دوَل الجنوب عامَّة ربط الاقتصاد والتِّجارة والاستثمار بمعايير سياسيَّة وغيرها تعقد التَّوَصُّل لاتفاقيَّات أو تطوير العلاقات. وهذا ما فتح أبوابًا كثيرة أمام الصِّين للتَّوغُّل التِّجاري والاقتصادي والاستثماري في دوَل آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة حيثُ لا تضع الصِّين شروطًا تعجيزيَّة كتلك الَّتي يضعها الغرب. بِغَضِّ النَّظر عن احتمال حياد سياسة العلاقات الخارجيَّة الأوروبيَّة عن الخطِّ الاستراتيجي الأميركي فإنَّ الاتِّحاد الأوروبي لن يكُونَ منافسًا للولايات المُتَّحدة في منطقة آسيا. بل على الأرجح سيكُونُ منافسًا للصِّين الَّتي تُعَدُّ المنطقة ساحة لها على طريقة «الشفعة» بحُكم الجوار والتَّقارب الثَّقافي وغيره. إنَّما العقبة الأهمُّ في تطوير علاقات أوروبا الآسيويَّة هي من داخل الاتِّحاد الأوروبي أصلًا. فأوروبا ليسَتْ كُلُّها «على قلبِ رجُلٍ واحد»، سواء في علاقتها بأميركا أو بالمناطق والدوَل الأخرى. ولَطالَما تنافستْ فرنسا وألمانيا على مركز القيادة في الاتِّحاد الأوروبي، بعد خروج بريطانيا الَّتي كانتْ منافسًا ثالثًا من أوروبا. وبالتَّالي ليس ما يسعى إِلَيْه ماكرون سيروق لميرتس بحيثُ تتطوَّر العلاقات الَّتي يحاول الرَّئيس الفرنسي إرساءها مع دوَل آسيان مثلًا إلى علاقة استراتيجيَّة بَيْنَ الاتِّحاد الأوروبي وتلك الدوَل. مع ذلك، لا شكَّ أنَّ هناك توَجُّهًا أوروبيًّا للتَّقارب مع آسيا وغيرها في سياق البحث عن المصلحة مع تراجع التَّحالف عَبْرَ الأطلسي مع أميركا.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]