الخميس 29 مايو 2025 م - 2 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن: حِرف عمان .. من ذاكرة التراث إلى مستقبل الاقتصاد

الثلاثاء - 27 مايو 2025 06:35 م

رأي الوطن

40

لا تُعَدُّ الصِّناعات الحِرَفيَّة في سلطنة عُمان نشاطًا تقليديًّا يمارس على الهامش أو يُذْكر كقِيمة رمزيَّة في الاحتفالات الوطنيَّة، بل تُمثِّل عُمقًا حقيقيًّا لهُوِيَّة المُجتمع وروح الأرض، فكُلُّ منتج حِرَفي هو وثيقة تختزل علاقة الإنسان بمحيطه، تروي قصَّة عاشها بِيَدَيْه وذاكرته. إنَّ ما يصنعُه الحِرَفي العُماني ليس تكرارًا لِمَا توارثه، وإنَّما إعادة توليد لمعنى الانتماء، يُعِيد من خلاله تشكيل علاقة مع ماضيه وحاضره في آنٍ واحد. فالحِرَف اليدويَّة لا تنفصل عن الأرض الَّتي خرجتْ مِنْها، سواء كانتْ فخاريَّات من طين الجبال أو منسوجات من نخيل الواحات أو خناجر محفورة من ثرى الأسلاف، لذا فدَعْم هذا القِطاع لا يُقاس فقط بالعائد المادِّي، بل بما يُغذِّيه من شعور بالكرامة الشخصيَّة، ويمنحه من مساحة للتَّعبير الذَّاتي، والاعتزاز بالهُوِيَّة المحليَّة.. ومن هنا فإنَّ الحفاظ على هذا الإرث ليس مُهِمَّة وزارة، بل مسؤوليَّة وطنيَّة تتطلب فَهْمًا بأنَّ الحِرفة جزء حيّ من نسيج الدَّولة المعاصرة، ومستقبل الأجيال القادمة. حين أُعلِن عن برنامج (حِرَف عُمان) كان من الواضح أنَّ الدَّولة تتَّجه نَحْوَ تغيير جذري في طريقة تعاملها مع الصِّناعات الحِرَفيَّة؛ وذلك من منطلق إدماج هذا القِطاع في مسار التَّحوُّل الاقتصادي الحقيقي، وليس من باب التَّجميل الثَّقافي أو الذَّاكرة العاطفيَّة. فالبرنامج جاء محمَّلًا بأدوات عمليَّة تُمكِّن العاملين في هذا المجال من الانخراط في سُوق تنافسيَّة، حيثُ ترتكز على جودة المنتَج وكفاءة التَّرويج والاستفادة من موارد التَّدريب والتَّمويل، وعَلَيْه لم يُطرحْ البرنامج بوصفِه حملةً قصيرة المدَى أو محاولة لرفعِ معنويَّات الحِرَفيِّين، كما أنَّ الرِّسالة الَّتي يبعثُ بها هذا البرنامج واضحة. فالدَّولة تُراهن على المواطن المُبدع القادر على تحويل مهارته إلى قِيمة مُضافة، وتحويل ذاكرته إلى سلعة ذات هُوِيَّة، في هذه اللَّحظة لم يَعُد الحِرَفي يشتغل من أجْلِ البقاء، بل أصبح فاعلًا في تشكيل اقتصاد متنوِّع، يُسهم في تنشيط السِّياحة، ويدعم الصَّادرات، ويُقدِّم صورة حضاريَّة عن عُمان تتكامل فيها الأصالة مع الكفاءة. من أبرز ما يُمكِن ملاحظته في البرنامج الوطني أنَّه يتعامل مع الحِرفة بوصفِها قِطاعًا اقتصاديًّا قائمًا بذاته، يحتاج إلى بنية أساسيَّة مؤهَّلة، وبيئة تشريعيَّة مستقرَّة، وآليَّات تسويقيَّة ذكيَّة، وشراكات تمتدُّ خارج الحدود، لذلك فهو لا يُقدِّم حلولًا آنيَّة. ولعلَّ أبرزَ ما يلفتُ في هذه الرُّؤية أنَّها تعترف بالحِرفة كمصدرٍ للثَّروة الرمزيَّة والماليَّة، وتمنح الحِرَفيِّين الأدوات الَّتي طالَما افتقدوها ليتجاوزوا الطَّابع المحلِّي إلى آفاقٍ إقليميَّة ودوليَّة، فالحاضنات المُتخصِّصة، ودَوْرات التَّدريب، ومسارات التَّمويل، والتَّكامل مع القِطاع الخاصِّ، كُلُّها مؤشِّرات على رغبة حقيقيَّة في تحريك هذا القِطاع من ركوده، وربطه بتوَجُّهات الاقتصاد الوطني، فالبرنامج لا يتعامل مع المنتجات الحِرَفيَّة كزينة ثقافيَّة، وإنَّما كاستثمار طويل الأمد، له مردود اقتصادي واجتماعي وثقافي، وذلك من خلال هذا النَّهج يتمُّ تحويل الصِّناعات اليدويَّة من نشاط موروث إلى نشاط واعد، قابل للتوسُّع، يعتمد على معايير الجودة والتَّجديد لا على الحنين وَحْدَه. عِندَما تضع الدَّولة الصِّناعات الحِرَفيَّة ضِمْن أولويَّاتها، فهي بذلك تضع الإنسان في مركز معادلة التَّنمية، لا باعتباره مجرَّد منفِّذ لتوجيهات عُليا، ولكن لكونِه شريكًا حقيقيًّا يمتلك الوعي والخبرة، والحِرفة ليسَتْ عبئًا على الموازنات، وإنَّما وسيلة لتحقيقِ الاستقلال الاقتصادي للفرد، وإيجاد مسارات عمل مَرِنة، ومصدر دخل مستقر للفئات الَّتي قد تعجز عن الالتحاق بالوظائف النَّمطيَّة، كذلك فإنَّ ارتباط الحِرفة بالهُوِيَّة يجعلها وسيلةً لتعزيزِ الانتماء، وإعادة تعريف العلاقة بَيْنَ المواطن وتراثه ليس من باب الفخر العاطفي، بل من خلال القِيمة اليوميَّة لِمَا يُنتجه بِيَدَيْه. في زمنٍ تتشابه فيه المنتجات، وتذوب الخصوصيَّات، تُمثِّل الصِّناعات الحِرَفيَّة جبهة مقاومة ناعمة، تُثبت من خلالها عُمان أنَّها تملك ما تقوله، وما تُقدِّمه، وما تفتخر به، دُونَ أنْ تستوردَ من الخارج ما يُعَبِّر عَنْها، ومن هنا فإنَّ (حِرَف عُمان) مشروع نهضة يستخرج القوَّة من تفاصيل ظلَّت لقرونٍ تنبض في وجدان هذا الشَّعب، وليس برنامجًا إداريًّا.