في توقيتٍ لا يخلو من الدّلالات، تأتي زيارة فخامة الرَّئيس الإيراني الدّكتور مسعود بزشكيان إلى سلطنة عُمان لِتعكسَ طبيعة العلاقة الخاصَّة الَّتي تجمع البلدَيْنِ، والَّتي طالَما تجاوزتْ حدود المجاملات الدبلوماسيَّة إلى شراكة حقيقيَّة تَقُوم على الثِّقة والتَّنسيق العميق، فلا يُمكِن فَهْمُ هذه الزِّيارة بمعزلٍ عن المُتغيِّرات المتسارعة في المنطقة، بدءًا من تعثُّر المفاوضات النَّوويَّة، وصولًا إلى الأوضاع الأمنيَّة في الإقليم. عُمان، الَّتي دأبتْ على أداء دَوْر «المحاوِر الصَّامت»، تفتح أبوابها مجدَّدًا لإيران ليس من باب المجاملة السِّياسيَّة، وإنَّما في سياق استراتيجيَّة واضحة تسعَى من خلالها إلى ترسيخ العلاقات التَّاريخيَّة القائمة، وترسيخ التَّهدئة في الإقليم، وبناء جسور الثِّقة بَيْنَ طهران والعواصم الغربيَّة والخليجيَّة. إنَّ زيارة فخامة الرَّئيس الإيراني تُمثِّل بداية اختبار جديد للدبلوماسيَّة العُمانيَّة الهادئة، ومؤشِّرًا على رغبة إيرانيَّة في إعادة ترتيب أوراقها الإقليميَّة من بوَّابة مسقط، وسلطنة عُمان ـ بسياساتها الرَّاسخة القائمة على الاحترام المُتبادل ـ تُحْسن تحقيق هذا الدَّوْر، في ظلِّ القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ. أمَّا العلاقات الثنائيَّة بَيْنَ سلطنة عُمان والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة فهي واحدة من أكثر العلاقات توازنًا في المنطقة طالَما، حيثُ مَنحتْ عوامل التَّاريخ المشترك، والمصالح الاقتصاديَّة المتشابكة، والحدود البحريَّة الحسّاسة العلاقة طابعًا خاصًّا، بعيدًا عن التَّصعيد أو التَّبعيَّة. ومن المتوقَّع أنْ تشهدَ القمَّة المُرتقَبة بَيْنَ جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم وفخامة الرَّئيس بزشكيان بحثًا موسَّعًا حَوْلَ ملفَّات حيويَّة، والتَّعاون في مجالات الطَّاقة والتَّبادل التِّجاري، ورُبَّما تفعيل مشاريع مشتركة نُوقشتْ سابقًا ولم تُستكملْ، كما يُنتظر أنْ يتناولَ اللِّقاء تطوُّرات الأحداث في الإقليم، حيثُ يُمكِن لعُمان أنْ تُسهمَ من جديد في تسهيل الحوار وفتح قنوات اتِّصال غير مباشرة بَيْنَ طهران وعددٍ من الأطراف الدّوليَّة، بما في ذلك الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة والاتِّحاد الأوروبي. وفي سياقٍ أوسع، تُعزِّز زيارة فخامة الرَّئيس بزشكيان الدَّوْر العُماني كوسيطٍ مفضَّل لدَى العواصم الكُبرى حينما يتعلَّق الأمْر بإيران، فسلطنة عُمان لم تكُنْ طرفًا منحازًا، ولم تستثمرْ علاقاتها لحسابِ أجنداتٍ آنيَّة أو انتهازيَّة، بل قدَّمتْ نَفْسَها دائمًا قناةً آمِنة للحوار، سواء في الملفِّ النَّووي الإيراني أو في قضايا الإقليم المُلتهبة. ومن المتوقَّع أنْ تفتحَ هذه الزِّيارة أبوابًا جديدة لإحياء المباحثات الغربيَّة الإيرانيَّة، ورُبَّما تكُونُ نقطة انطلاق لمسارٍ غير مباشر من التَّهدئة، يبدأ بلقاءات ثنائيَّة وينتهي بتفاهمات مُتعدِّدة الأطراف، ويبدو أنَّ طهران تُدرك أنَّ النَّفَس الطَّويل الَّذي تتميَّز به الدبلوماسيَّة العُمانيَّة هو ما تحتاجُه في المرحلة المُقبلة. ولا يُمكِن إغفال البُعد الاقتصادي للزِّيارة، خصوصًا في ظلِّ ما تُعانيه إيران من تضييق اقتصادي نتيجة العقوبات الغربيَّة.. فعُمان ـ بما تتمتع به من موقع جغرافي استراتيجي وموانئ متطوِّرة ـ قَدْ تكُونُ منفذًا مُهمًّا للشَّراكة الاقتصاديَّة، بعيدًا عن التَّصعيد والمواجهات. ورُبَّما تشهد الفترة المقبلة توقيع اتفاقيَّات في مجالات الطَّاقة والتِّجارة والنَّقل البحري، إلى جانب تعاونٍ محتمل في تقنيَّات إنتاج الهيدروجين الأخضر، وهو ملف استثماري واعد لكلا الطَّرفَيْنِ. ختامًا، فإنَّ زيارة الرَّئيس الإيراني إلى عُمان تحمل في طيَّاتها رسائل كثيرة تتجاوز الشَّكل البروتوكولي، فهي عودة للتَّوازن في زمن الاضطراب، وإعادة تأكيد على أنَّ سياسة الحياد النَّشط الَّتي تنتهجها عُمان ليسَتْ رفاهيَّة دبلوماسيَّة، بل ضرورة إقليميَّة.