السبت 13 ديسمبر 2025 م - 22 جمادى الآخرة 1447 هـ

قدرات المستقبل

قدرات المستقبل
الاثنين - 26 مايو 2025 05:18 م

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

20

يَسير الكون وفْق نظام إلهيّ مُحكم وحسب سنن كونيَّة تضبط حركته الدائمة وتنظّم العلاقة والتَّفاعل بَيْنَ مكوِّناته وعناصره. وكذلك الحال لكوكب الأرض الَّذي جعله الله الخالق مستقرًّا للإنسان وغيره من الكائنات. الحركة والتَّفاعل بَيْنَ المخلوقات باختلافها وتنوعها هي علامة الحياة. فالإنسان الَّذي استخلفه الخالق ـ جلَّ وعلا ـ على الأرض وجعلها مستقرًّا لمعاشه وميدانًا لسعيه تنتظم حركته وأحواله وفْق آليتَيْنِ متكاملتين فطريَّة لا إراديَّة كنبضات القلب والتنفس وأخرى إراديَّة اختياريَّة يتميَّز بها كُلُّ فرد عن غيره وهي مناط التكليف والمساءلة. يمرُّ الإنسان بأحوال وأطوار مختلفة مِنْها طبيعيَّة كمراحل الحياة المختلفة الَّتي تبدأ بضعف، ثمَّ قوَّة، ثمَّ ضعفًا. ومِنْها تطويريَّة تراكميَّة مكتسبة تنمو وتتحسن أو تضعف وتسوء بحسب مدى ثراء الخبرات وسعة المعارف وعمق الوعي المدرك ونتاج اختيارات الإنسان ومقارباته وأفعاله. الاستخلاف في الأرض يتطلَّب توافر قدرات وملكات لدى الإنسان من جانب ويحمِّله أداء مسؤوليَّات كبرى تجاه الكوكب وما عَلَيْه وتجاه نَفْسه وبَني جنسه من جانب آخر. قدرات الإنسان المؤهلة له للاستخلاف تتعدى الملكات الخَلقيَّة والجدارات الفرديَّة لِتشملَ النُّظم والأعراف والقِيَم المُجتمعيَّة، ونُظم الأداء والإنجاز الفردي والجَمعيّ، ونُظم التَّعاون والتشارك والحوكمة وتوجيه المنظومات الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة، وغيرها. القدرات كغيرها من ممكنات الاستخلاف وخصائص الإنسان المستخلف لا تبقى على حال ثابت ولا على وضع واحد، بل هي في تحوُّل دائم فإمَّا إلى نماء وتحسُّن أو إلى انكماش وضعف. وحيثُ إنَّ القدرات ـ في اصطلاحنا هنا ـ متعلقة بالأداء والسُّلوك الفردي والجمعي فهي أوسع من الجدارات الفرديَّة والمهارات التخصصيَّة والتقنيَّات التَّطبيقيَّة لِتشملَ النُّظم التشاركيَّة وأساليب الأداء والتقييم وطرائق العمل، والتحكُّم، والتجويد، والتحسين. وقد طوَّر الإنسان وحسب أحوال وبيئات مُجتمعاته المختلفة أعرافًا وطرائق أداء ونُظم إدارة وحوكمة وآليَّات تخطيط واتِّخاذ القرار ووسائل تنفيذ وأساليب تقييم وغيرها من أدوات ومقاربات وسلوكيَّات. ومن ذلك إيجاد منظومات أداء وتشارك متكاملة ومتَّسقة مع السنن والأعراف المُجتمعيَّة وجوّدها الإنسان على مدى أزمنة طويلة وصقلها بخبرات تراكميَّة واسعة. يُمكِننا تصنيف القدرات في مستويين فرديَّة وجماعيَّة. الفرديَّة تتقاطع مع الجدارات والمهارات بَيْنَما الجماعيَّة تتقاطع مع العلاقات والأعراف والعمل المشترك والفكر الجمعي. من أمثلة القدرات الفرديَّة ملكات القيادة وشغف الرِّيادة والتَّواصُل الفعَّال والبصيرة النَّافذة والتفكير النقدي والقدرة على الصمود وعلى نجاعة اتِّخاذ القرار واحتواء الاختلافات وتحويل الأزمات إلى فرص. القدرات الجماعيَّة تشمل منظومات الأخلاق والقِيَم والسُّلوك وسُنن وأعراف العمل الجماعي المشترك وتنظيم التَّشارك والتَّعاون وحماية الحقوق والحُريَّات الشخصيَّة وتأكيد مسؤوليَّات المواطنة وحقوقها. القدرات بشقَّيها الفردي والجماعي هي مصادر قوَّة أساسيَّة ناعمة وإمكانات ذات أهميَّة كبرى للأوطان والمُجتمعات. ونظرًا لسهولة ملاحظة وقياس القدرات الفرديَّة فإنَّها تجد الاهتمام الأكبر والتقدير الأبرز مقارنة بالقدرات الجماعيَّة. ويؤدي عدم التوازن بَيْنَ القدرات الشخصيَّة والقدرات الجماعيَّة في الاهتمام والتقدير إلى بروز النَّجاحات الفرديَّة وتكُونُ ثقافة السَّعي وراء تحقيق المصالح الذاتيَّة. ولا يخفى ما لهذا التَّحوُّل الثَّقافي والسُّلوكي إلى الاحتفاء وتمجيد النَّجاحات والمكتسبات الفرديَّة من أثر على نماء الأوطان وعلى تماسك المُجتمعات وصمودها أمام تحدِّيات حضاريَّة تنمويَّة ووجوديَّة. وقد شهدت القدرات بنوعيها الفرديَّة والجماعيَّة تحوُّلات فارقة وتغيُّرات أعادت هندسة وتشكيل كثير مِنْها لتتوافقَ مع معطيات التقنيَّة وأساليب الحياة العصريَّة ممَّا أدَّى إلى تلاشي الحواجز المُجتمعيَّة وانهيار الحمايات الثقافيَّة واستباحة الخصوصيَّات الشخصيَّة والمُجتمعيَّة. هذه التَّحوُّلات والَّتي أضعفت العمل الجماعي التشاركي من جانب أدَّتْ إلى بروز تحدِّيات كبيرة أفرزتها العولمة والتنافسيَّة الشرسة من جانب آخر. إدارة هذا التَّحوُّل وتداعياته يتطلب تطوير مقاربات مختلفة وأساليب عمل جماعي مبتكرة تعتمد على إنماء القدرات الجماعيَّة وتأكيد أهميتها ودَوْرها. نجد أنَّ فلسفة ومناهج التَّعليم بكُلِّ مستوياته المعاصرة قائمة على تنمية القدرات الفرديَّة وتطويرها بَيْنَما تكاد تنعدم جهود تنمية القدرات الجماعيَّة والَّتي كانتْ تعتمد على محاضن التَّربية والتَّعاضد من مثل السّبلة العُمانيَّة ومجالس الوجهاء ومجامع العِلم والعلماء لِتَقومَ بهذه الأدوار بكفاءة واقتدار. تنمية القدرات الفرديَّة تعتمد على مؤسَّسات إنماء المهارات التخصصيَّة والممارسات العمليَّة في الإنتاج والتصنيع والتشييد وفي شتَّى المجالات الخدميَّة، والإشرافيَّة، والتطويريَّة، والمعرفيَّة. القدرات الجماعيَّة تتطلب إيجاد مؤسَّسات ومراكز مختلفة عن تلك المعنيَّة بالقدرات الفرديَّة. وتماشيًا مع التَّطوُّر الَّذي تشهده الحضارة الإنسانيَّة والتَّحوُّلات الَّتي تعيشها المُجتمعات البَشَريَّة فقد أنشئت مؤسَّسات ومعاهد حديثة للقيام ببناء وإنماء القدرات الوطنيَّة الجماعيَّة تحلُّ محلَّ المؤسَّسات السَّابقة. من هذه المؤسَّسات الحديثة مراكز التفكير ومجامع المستشارين والخبراء ومجالس وجهاء المُجتمع المشهود لهم بالبصيرة وحسن التدبير والعمل المُجتمعي الوطني. إحدى هذه المؤسَّسات الحديثة هي المجالس البرلمانيَّة والمنتسبون إِلَيْها، سواء بالانتخاب أو التَّعيين. غير أنَّ المنتسبينَ إِلَيْها قد لا يمتلكون الخبرات المتكاملة ولا القدرات البحثيَّة والتطويريَّة الواجب توافرها مع عدم ملاءمة آليَّات العمل فيها لإحداث التغيير المنشود والتطوير المرتجى نظرًا لتأثير الاعتبارات السِّياسيَّة والانتخابيَّة على الأساليب والطرائق المتَّبعة في ذلك. لقد شهد المُجتمع العُماني والمُجتمعات العربيَّة وغيرها من المُجتمعات تحوُّلات ثقافيَّة وسلوكيَّة وأدائيَّة فارقة غيَّرت ملامح الحياة المعاصرة تغييرًا جذريًّا في بعض مناحيها. هذه التَّحوُّلات هي نتاج التقدُّم التقني المذهل الَّذي كسر الحواجز الثقافيَّة وأعطى مؤسَّسات الإعلام الحديث وأدواتها قدرة فائقة على التأثير المباشر على المُجتمعات وأفرادها وأوجد منصَّات تأثير لكُلِّ مهتمٍّ أو صاحب رأي وإن كان غير مؤهل. فتحوَّلتْ مصادر اكتساب العلوم ومحاضن التَّربية ومراجع الأخلاق من المداس والمعاهد والأُسر إلى مؤسَّسات متحكمة في وسائل التَّواصُل والإعلام لها أهداف تجاريَّة صرفة أو أغراض مصلحيَّة أيديولوجيَّة كثير مِنْها مناهض للأعراف والقِيَم الإنسانيَّة الأخلاقيَّة المتعارف عَلَيْها. أصبحتْ مجابهة كثير من هذه الوسائل والَّتي دخلتِ البيوت ومعاهد اكتساب العِلم ومواقع العمل بلا استئذان صعبة وغير مجدية ما لم تطوَّرْ للتصدِّي لها أساليب غير تقليديَّة ومقاربات مختلفة. ظهرتْ بوادر تغيُّرات مؤثرة في ثقافة وسلوكيَّات المُجتمع ومِنْها ما يمثِّل خطرًا محدقًا على قدرة الشُّعوب والدوَل على الحفاظ على تماسكها وعلى صون مكتسباتها ومنجزاتها الحضاريَّة وحتَّى بقائها واستقلالها. المستشرف للمستقبل يرى أنَّ التحدِّيات والأخطار ستزداد سوءًا ما لم تقُمِ الدوَل بإنماء قدرتها على تطوير أدوات وآليَّات تقوِّي مناعتها وتكسبها مرونة وصمودًا للتَّعامل مع متغيِّرات متسارعة تشمل كُلَّ مناحي الحياة بكفاءة عالية. الاعتماد على بيوت الخبرة العالَميَّة والمؤسَّسات الدّوليَّة لتقييمِ الحالة الوطنيَّة واقتراح الحلول لمجابهة تحدِّيات المستقبل وتحدِّياته وتحقيق فرصه ليس كافيًا، بل قد يكُونُ مضرًّا لعدم معرفة هذه البيوت والمؤسَّسات بخصائص الحالة الوطنيَّة. وإن نظرنا إلى الوطن العُماني وما يمتلكه من إرث حضاري عريق ومكتسبات ومنجزات عصريَّة شاملة وكوادر وخبرات عُمانيَّة في كُلِّ المجالات فلا شك أنَّه لدى عُمان من المقدرات والكفاءات ما يُمكِن استثماره، بل الاعتماد عَلَيْه في بناء قدرات المستقبل. ولا يمنع ذلك من، بل يحبّذ، الاستفادة من خبرات وتجارب الدوَل الأخرى وذلك من خلال تمكين الخبراء العُمانيين التعرُّف على تلك التجارب والخبرات. بناء قدرات المستقبل، وخصوصًا القدرات الجماعيَّة يتطلب مقاربات مبتكرة سأعرض بعض المقترحات لتحقيق ذلك. أوَّلًا البناء على المقدرات والإمكانات القائمة والمتاحة ومن ذلك رفع مستوى أدوار مجلسَي الدَّولة والشُّورى للقيام بمهماتهم وتمكينهم بتوفير وتطوير أدوات فعَّالة لذلك. ثانيًا إنشاء مراكز تفكير استراتيجيَّة متخصِّصة في المجالات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والثقافيَّة تَقُود جهود تطوير وإنماء القدرات الوطنيَّة في مجالاتها المختلفة. ثالثًا تطوير آليَّات وأدوات حديثة وعصريَّة للقيام بأدوار مجامع العمل الوطني التوجيهي وبتوجيه وتشكيل ثقافة مُجتمعيَّة واعية ومسؤولة وتكُونُ سياجًا واقيًا للمُجتمع من المؤثِّرات السلبيَّة ومن الغزو الفكري المُضلل والمضعف لمتانة وصلابة المُجتمع. ومن ذلك إحياء أدوار السبلة العُمانيَّة ومجالس الفكر والأدب المحصّنة للوطن وأبنائه والمحفِّزة لهم للتميُّز والابتكار والرِّيادة. وحيثُ إنَّ الإعلام المعاصر له دَوْر بارز في تشكيل الثَّقافة المُجتمعيَّة فإنَّ مراجعة السِّياسة والاستراتيجيَّة الإعلاميَّة لتتواءم مع معطيات العصر وتوجُّهات الأجيال الجديدة، خصوصًا وتكُونُ متوافقة مع مبادئ وثوابت المُجتمع المتفرد بها والمميّزة له أصبح ضرورة ملحَّة. وأخيرًا فإنَّ الدَّفع قُدمًا بتطوير عمل الجهاز الإداري للدَّولة لِيكُونَ أكثر استجابة للتطوُّرات المتلاحقة وأكثر رشاقة في الأداء وأشمل تكامليَّة بَيْنَ مؤسَّساته وقِطاعات الدَّولة المختلفة سيُمكِّن من بناء قدرات المستقبل بكفاءة عالية.

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان

ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية