الأربعاء 28 مايو 2025 م - 1 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

صمت فـي عيون الأطفال!

صمت فـي عيون الأطفال!
د. يوسف بن علي الملا
الاثنين - 26 مايو 2025 05:16 م

د. يوسف بن علي الملَّا

30

في زاوية صامتة من فصول الدراسة المزدحمة، يجلس طفل يحدّق في اللوح بعينين شاردتين، وقلب مثقل لا تراه الأعين. لا جروح ظاهرة، ولكن داخل صدره تعصف عاصفة صامتة من الحزن والقلق. لقد باتت الابتسامة الطفولية التي كانت يومًا عنوانًا للبراءة، تُهددها ضغوط الواقع، لا بفقر في الألعاب أو قلة الطعام، بل بما هو أعمق: صراعات نفسية تنمو بصمت، وغالبًا ما تمر دون أن يلاحظها أحد! حقيقة لقد تغير مفهوم الطفولة في عصرنا. لم تعد مساحة آمنة للضحك واللعب، بل أصبحت ساحة مليئة بالتحديات النفسية. فالمدرسة، التي يفترض أن تكون بيئة تعليمية دافئة، باتت مصدرًا للتوتر والخوف. القلق من الامتحانات، ضغط التفوق، التنمر، العزلة الاجتماعية، وحتى المقارنات الإلكترونية على وسائل التواصل، كلها عوامل تنحت ببطء في وجدان أطفالنا، وتترك آثارًا نفسية لا تُرى بالعين. لا سيما وأن الكثيرمن الأطفال يصابون بالاكتئاب في عمر مبكر، لكنهم لا يقولون «أنا مكتئب»، بل يُظهرونه بصور مختلفة: الانسحاب من اللعب، اضطرابات النوم، فقدان الشهية، البكاء بدون سبب واضح، أو حتى تراجع مفاجئ في المستوى الدراسي. ومن المؤسف أن بعض الآباء أو المعلمين يفسرون هذه التغيرات على أنها «دلَع» أو «عناد»، بينما هي في الحقيقة استغاثات صامتة من طفل يتألم بل وتشير الإحصاءات العالمية إلى أن طفلًا من كل سبعة يُعاني من اضطراب نفسي ويُعد الاكتئاب أحد أكثر هذه الاضطرابات شيوعًا. وإن لم يُكتشف ويُعالج مبكرًا، فقد يُؤدي إلى تدهور في الأداء الدراسي، ضعف في العلاقات الاجتماعية، أو حتى سلوكيات إيذاء النفس مستقبلاً. لكن وسط هذه العتمة، يظل هناك نور قوي لا يُضاهيه دواء، ألا وهو دفء الأم وحنانها. لذلك لا شيء يُضاهي دور الأم في حماية طفلها نفسيًا. فبينما يؤدي الأطباء والمعلمون أدوارًا مهمة، تبقى الأم هي خط الدفاع الأول، والعين التي ترى ما لا يُقال، والقلب الذي يشعر بما لا يُفصح عنه. عندما يجد الطفل في والدته أمانًا، وصدراً رحباً يحتويه، يستعيد توازنه العاطفي ويبدأ بالشفاء. وقد أثبتت الدراسات أن رعاية الأم العاطفية، واهتمامها بمشاعر طفلها، تقلل بشكل كبير من خطر الاكتئاب لدى الأطفال حتى في أصعب البيئات. إن التواصل اليومي البسيط، مثل لحظة عناق، أو جلسة استماع صادقة في نهاية اليوم، له تأثير عميق يتفوق على أي علاج نفسي. حين تصغي الأم لطفلها دون إصدار أحكام، وتحتويه بدلًا من مقارنته، وتدعمه دون أن تضغط عليه، تُرسل له رسالة غير منطوقة: «أنت محبوب كما أنت، ولست وحدك». لكن كي تقدم الأم هذه الرعاية، لا بد أن تشعر هي نفسها بالأمان والدعم. فالكثير من الأمهات يعشن ضغوطًا لا تقل قسوة: العمل، الأعباء المنزلية، القلق على المستقبل، وانعدام الوقت للنفس. لذلك، فإن دعم الأمهات نفسيًا واجتماعيًا هو ضرورة لا خيار، لأن الأم المدعومة نفسيًا تُربي طفلًا مستقرًا نفسيًا. ختاما، في زمن طغى فيه الضجيج الإلكتروني والسباق المجتمعي، تبقى لمسة الأم، ونظرتها الحانية، وكلمتها الهادئة، هي الدواء الأول والأبقى. فخلف كل طفل يتألم بصمت، هناك أم يمكنها – إن استُنهضت قواها ومنحت وقتها – أن تعيده إلى الحياة من جديد.

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]