الأربعاء 28 مايو 2025 م - 1 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

اختراق ترامب وجثث الأطفال

اختراق ترامب وجثث الأطفال
الاثنين - 26 مايو 2025 05:14 م

إبراهيم بدوي

20

مَن يتتبع تصريحات دُونَالد ترامب عن حدوث (اختراق كبير) في مفاوضات غزَّة، لا يلبث أن يكتشفَ أنَّ هذه التَّصريحات لا تأتي إلَّا والدَّم الفلسطيني لم يجفّ بعد من أرضه، كُلُّ مرَّة يخرج فيها ترامب أو غيره من صنَّاع الكذب السِّياسي ليتحدثَ عن (هدنة محتملة) أو (انفراجة إنسانيَّة)، نكتشف بعد ساعات فقط أنَّنا أمام مجزرة جديدة، ضحيَّة جديدة، عائلة أُبيدت عن بكرة أبيها، ولعلَّ ما حدَث مع الطَّبيبة آلاء النجار وزوجها وأطفالها التسعة يؤكِّد تلك النظريَّة، كما يؤكِّد أنَّه ليس (خطأ عسكريًّا)، بل جريمة مبيَّتة واضحة الأركان والمعالِم. فقد نفَّذ الكيان الإرهابي الجريمة بهدوء وإصرار، على مدى دقائق طويلة من القصف المتواصل، وكأنَّ هناك إلحاحًا صهيونيًّا للتأكد من عدم بقاء أحد، فعائلة كاملة تمَّ اختزالها إلى رماد، غرفة تحوَّلتْ إلى حفرة، وسرير الأطفال صار شاهد قبر. وفي قلب هذا الجحيم، يأتي ترامب بابتسامته المعهودة ليتحدثَ عن تقدُّم في المفاوضات، أي مفاوضات هذه الَّتي تُبنى على أشلاء أطفال؟ أيُّ سلام يُرتجى من حليف لم يذكرْ حتَّى أسماء القتلى في بيانه؟ أو يُداري سوءاته بشجب أو تنديد أو رفض لتلك الجرائم الصهيونيَّة؟ وما يزيد من سوداويَّة المشهد هو هذا التَّواطُؤ العلني من الإدارة الأميركيَّة، ليس فقط بالصَّمْت، بل بالتَّواطُؤ والتَّسويق، فلا نسمع تصريحًا رسميًّا يُدين القصف، ولا إشارة واحدة لجريمة بشعة مثل الَّتي ارتكُبت بحقِّ عائلة النجار، ولا الجرائم الَّتي تواصلتْ منذُ هذه الحرب، فالإعلام الأميركي، الَّذي طالما تبجَّح بحُريَّة الصحافة وحقوق الإنسان، يكتفي بعناوين باهتة عن (غارة على غزَّة)، و(تصعيد جديد)، وكأنَّنا أمام طقس موسمي لا أكثر. في الوقت نفسه تنشغل الصحف الصهيونيَّة بتوثيق ما يجري في الضفَّة، من اقتحامات واعتداءات وتهجير، في ظلِّ تركيز الأنظار إعلاميًّا على غزَّة، كأنَّ هناك تقسيمًا للأدوار، وغضًّا متعمدًا للطَّرف عن الجرائم الَّتي تنفَّذ بهدوء في القدس والخليل ونابلس، لِيكتملَ مشروع التَّصفية على جبهتَيْنِ، واحدة تقصف، وأخرى تستنزف حتَّى الاختفاء، والإدارة الأميركيَّة الَّتي تتعامل مع الفلسطينيِّين كأرقام، تتورط يومًا بعد يوم في مشروع إبادة منظَّم، لا يترك للأرض ولا لأهلها أيَّ احتمال للنجاة. ترامب الَّذي يتحدث عن (انفراجة) يبدو كمن يبيع وهمًا سياسيًّا لوسائل الإعلام، أو رُبَّما يروِّج لصفقة لا يَعْلم تفاصيلها إلَّا من أعدّوها في الغُرف الخلفيَّة المغلقة، كيف يُمكِن لرئيس سابق، ادَّعى في الماضي أنَّه راعي (صفقة القرن) أن يبررَ استمرار العدوان، أو يتجاهلَ آلاف القتلى والجرحى، ويطلَّ بوجهه لِيحدثَنا عن تقدُّم؟ الحقيقة أنَّ ما يبثُّ من واشنطن ليس سوى تغطية ناعمة لإرهاب سافر، ترامب يكتفي بالتَّصريحات ولا يتدخل لوقفِ القصف، ويضغط على دوَل العالَم في قضايا أخرى بَيْنَما يتجاهل دماء الأبرياء، ففي كُلٍّ نرى هذا المشهد، لا أرى سوى عجز عربي صارخ، وتراجع عالَمي مخزٍ، وخوف واضح من مواجهة الحقيقة، وهي أنَّ دولة الاحتلال الصهيوني، بدعم أميركي كامل، ترتكب واحدة من أوسع جرائم الإبادة في القرن، والعالَم ـ أو أغلبه ـ قرَّر أن يتغاضى، ورُبَّما يشارك في الجريمة بصَمْتِه وسُكوته. النجار ليسَتْ مجرَّد اسم يُضاف إلى قائمة الشهداء، بل رمز صارخ لكُلِّ ما يجري من عبثٍ في ضمير العالَم، حين تُقصف أُسرة كاملة ولا يصدر بيان إدانة من أيِّ جهة تُسمِّي نَفْسها (مدافعة عن الإنسانيَّة)، فاعلم أنَّ ما نعيشه ليس عدوانًا فقط، بل لحظة سقوط أخلاقي عالَمي. ومَن يتابع المشهد بتجرد، يدرك أن ما يحدث أكثر من كونه صراعًا سياسيًّا كما يزعم حلفاء الاحتلال، وإنَّما هو عمليَّة إبادة موثَّقة، تُدار عَبْرَ منظومة متكاملة من الإعلام، والدبلوماسيَّة، والتحالفات العسكريَّة، فالفلسطيني هنا لا يقتل فقط، بل يمحى من المعادلة، كُلُّ بيت يهدم هو طعنة في ذاكرة المكان. وكُلُّ طفل يستشهد هو محاولة لقتل الغد. وإن لم نصرخ بأعلى صوتنا، ونكتب بما تبقى من حبر وصدق، فإنَّنا نترك المساحة كاملة لهذا الوحش أن يتمددَ ويأكلَ ما تبقَّى. التَّاريخ لا ينسى، والدَّم لا يجف، والنَّار لا تخمد، ما دام هناك مَن يصرُّ على إنكار الجريمة، وتسويق الكذب كأنَّه إنجاز دبلوماسي.

إبراهيم بدوي

[email protected]