الخميس 29 مايو 2025 م - 2 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن: غزة لا تحترق وحدها.. العالم شريك فـي الجريمة

الأحد - 25 مايو 2025 05:48 م

رأي الوطن

60

في صباحٍ لا يُشبه باقي أيَّام العام، وبَيْنَما كانتِ الطَّبيبة آلاء النجَّار في طريقها لعملِها داخل مستشفى التَّحرير بمجمَّع ناصر الطبِّي، تُحاول إنقاذ ما يُمكِن إنقاذُه من أرواح استهدفتها آلةُ الإرهاب والقتل الصُّهيونيَّة. وأثناء تأدية واجبها، لم تكُنْ تَعْلَم أنَّ الزَّمن سَيَفْرمُ على عتبة بَيْتها، وأنَّ آخر لحظة رأتْها فيها عَيْناها أطفالها التِّسعة ستكُونُ آخر صفحة في كِتاب أُمومتها، دقائق فقط بعد مغادرتها، سقطَ الصَّاروخ وانفجر البيت، احترق الأثاث، تحوَّلتِ الغرفة الَّتي كانتْ تضمُّ سرير الطِّفلة سيدرا وزينة العيد إلى جحيم، وكأنَّنا في فيلم رُعْب أنتجته هوليوود، وعِندَما وصلتْ آلاء إلى المستشفى بعد الانفجار، لم تُنقلْ إِلَيْها جُثث أطفال من شارعٍ بعيد، بل جُلبتْ إِلَيْها فِلذات كَبدها أشلاءً متفحِّمة، محمولة على نقَّالات إسعاف ملوَّثة بالرَّماد ورائحة الحريق. يحيى، ركان، جبران، ريفان، لقمان، سدين، رسلان، سيدرا، وإيف... أسماء تتحوَّل من نداءات أُمٍّ إلى قائمة شهداء، لا توجد لُغة تشرح مشهد أُمٍّ تتعرف على أطفالها من خلال بقايا ثيابهم المُحترقة، لا توجد قدرة بَشَريَّة على وصف نَحيبِها حين أدركتْ أنَّ الحياة بكُلِّ ما فيها قَدِ انتهتْ، وأنَّ قَلْبَها الآن يحملُ صمتًا لا يُحتمل. البيتُ الَّذي قُصِف ليس ثكنةً عسكريَّة، ولا نفقًا أرضيًّا، ولا مخبأً لِمُقاوِمِين. هو منزل عائلة طبيَّة، بسيطة، مُكوَّنة من أُمٍّ طبيبة أطفال وأبٍ طبيب، وأطفال تتراوح أعمارهم بَيْنَ عامَيْنِ واثنَي عشر عامًا، والمشهد لم يكُنْ عشوائيًّا ولا خطأً في الإحداثيَّات كما يزعم الكيان الصُّهيوني حين يُريد تبريرَ جريمتِه، كُلُّ شيءٍ كان مقصودًا، مدروسًا، موَجَّهًا. هذه سياسة إبادة، لا غارات خاطئة، فعِندَما تُقصَف منازل المَدَنيِّين في وضَحِ النَّهار، ويُقتل الأطفال في أسِرَّتِهم، وتُبتر عائلات من جذورها، فهذه ليسَتْ حربًا؛ إنَّها مجازر تحمل توقيعًا رسميًّا من جيش يحترف القتل والإرهاب، ليس هناك أيُّ حرجٍ في تسمية الأشياء بمُسمَّياتها، فنحن أمام منظومة قتل وإرهاب ممنهجة، أمام ماكينة صهيونيَّة لا تستهدف مقاوَمة، بل تستهدف الوجود الفلسطيني نَفْسَه.. ففي خان يونس، اغتيلَ خلال (٢٤) ساعةً فقط (٣٨) إنسانًا. نُسِفَتِ البيوتُ على ساكنيها، دُمِّرتِ العائلات، ولم يتحرَّكِ العالَم إلَّا ببضع بيانات باهتة لا تُقنع حتَّى أصحابها. وفي زاوية أُخرى من المأساة، هناك جريمة لا تقلُّ بشاعة، وهي جريمة الجوع، فالطِّفل الَّذي نجا من الصَّاروخ، لن ينجوَ من المجاعة، وهذا بشهادة برنامج الأغذية العالَمي، الَّذي أعلنَ بالأرقام أنَّ أكثر من (70) ألفَ طفلٍ في غزَّة يواجهون سُوء تغذية حادًّا، وهذه ليسَتْ نَشرةً طبيَّة، إنَّها شهادةُ موتٍ مُعلَّقة، فأن يكُونَ هناك عشرات الآلاف من الأطفال لا يجدون حليبًا، لا يجدون خبزًا، لا تصلهم مياه نظيفة، فتلك حرب أُخرى تُدار بلا قنابل، لكنَّها تقتُل بصَمْتٍ. وتخرج المنظَّمة لِتقولَ إنَّها (تحاول) إيصال المساعدات لكنَّ ما يصل (لا يكفي) فمَن يَمنع؟ ومَن يُحاصِر؟ مَن يُغلِق المعابر؟ إنَّه الكيان المحتلُّ ذاته الَّذي يقتُل في النَّهار، ويخنُق في اللَّيل، ومع ذلك لا يُدان، لا يُحاصَر، لا يُعاقَب، بل يُكافأ بدلًا من ذلك بمزيدٍ من الدَّعم، وبمقاعد أماميَّة في المنظَّمات الدوليَّة الَّتي صارتْ متخصِّصةً في تسجيل الجرائم لا في إيقافها. المأساة في غزَّة ليسَتْ مأساة أهلِها وَحْدَهم، وإنَّما مأساة هذا العالَم الَّذي قرَّر أنْ يُغلقَ عَيْنَيْه ويمضيَ، فلا يُمكِن أنْ نَصِفَ ما يجري بأنَّه (نزاع) أو حتَّى (حرب إبادة)، فالكلمات لم تَعُدْ قادرةً على تغطيةِ الدَّمِ! إنَّ ما يَحدُث هو تطهير عِرقي مُوَثَّق، مجازر ترتكبها دَولة تدَّعي الحداثة، وتُمارس الإبادة، ولا عزاء للعدالة الَّتي لم تأتِ، ولن تأتيَ في زمنٍ صارَ القاتل يُستقبَلُ في العواصم، ويُمْنحُ حقَّ الردِّ، وتُحاسَبُ الضَّحيَّة على صراخِها، ما يَحدُث في غزَّة اختبار أخلاقي لكُلِّ مَن في هذا الكوكب، اختبار سقطَ فيه الجميع، إلَّا مَن قاوَمَ وكتَبَ، وصَرخَ، وبَكَى، ورفَضَ أنْ يكُونَ جزءًا من القطيع. إنَّه في كُلِّ غارة، في كُلِّ طفلٍ يُنتشل من تحتِ الرُّكام، يُولَد سؤال واحد وهو: إلى متى سيظلُّ هذا العالَم شريكًا في الجريمة؟ والسُّؤال الأشدُّ قسوةً هو: هل ما زال هناك مَن يرَى غزَّة جزءًا من الإنسانيَّة؟، أم صارتْ خارجةً عن نطاقِ الاهتمامِ، كأنَّها بقعة زائدة على خريطة العالَم، يَجوزُ حَرقُها؟