السبت 13 ديسمبر 2025 م - 22 جمادى الآخرة 1447 هـ

حماية الطفل ليست قانونا فقط .. بل ثقافة نعيشها

حماية الطفل ليست قانونا فقط .. بل ثقافة نعيشها
الأحد - 25 مايو 2025 05:36 م

نبيلة رجب

20

ليسَتْ حماية الطِّفل مسألة قانونيَّة وحسب، بل مشروع إنساني تتقاطع فيه الأُسرة والمُجتمع والدَّولة. فما يطمح إِلَيْه أيُّ قانون هو الحدُّ الأدنى من الأمان، لكن ما يحتاجه الطِّفل في الحقيقة يتجاوز النُّصوص، ليصلَ إلى التَّفاصيل الدَّقيقة الَّتي تُشكِّل تجربته اليوميَّة. لا يكفي أن يُنصَّ على حقوقه، بل يَجِبُ أن يشعرَ بها، أن يراها في طريقة حديثنا معه، في نظرتنا لاحتياجاته، وفي فَهْمِنا لحدوده وطاقته. في مُجتمعاتنا الخليجيَّة، يتزايد الوعي بأهميَّة تطوير التَّشريعات المعنيَّة بالطُّفولة، ليس فقط لحمايتها من الإيذاء، بل لتمكينِ الطِّفل من النُّمو في بيئة تُدرك خصوصيَّته. وفي سلطنة عُمان، جاء قانون حماية الطِّفل الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (22/2014) ليؤكِّدَ هذا التَّوَجُّه، من خلال تأطير الحقوق الأساسيَّة، وتحديد آليَّات للتَّبليغ والحماية، بما يواكب الالتزامات الدّوليَّة للسَّلطنة، خصوصًا بعد مصادقتها على اتفاقيَّة حقوق الطِّفل عام 1996. لكنَّ القانون ـ مهما بلغ من التَّقدُّم ـ يبقَى خطوةً أُولى فقط. المسؤوليَّة الأوسع تظلُّ في يَدِ المُجتمع. فالقانون يوفِّر الإطار، بَيْنَما تُشكِّل البيئات الاجتماعيَّة ـ من المنزل إلى المدرسة، ومن الإعلام إلى الشَّارع ـ مضمون التَّجربة الَّتي يعيشها الطِّفل. لهذا فإنَّ نجاح أيِّ نظام لحماية الطُّفولة لا يُقاس فقط بصرامة نصوصه، بل أيضًا بمدَى قدرتنا على تهيئة الظُّروف الَّتي تُغني عن استخدام تلك النُّصوص أصلًا. في عُمق أيِّ مُجتمع، توجد منظومة غير مكتوبة من القِيَم الَّتي تُشكِّل نظرته للطُّفولة. حين تُربط الطَّاعة بالصَّمت، يُصبح الطِّفل «المثالي» هو مَن لا يعترض ولا يُبدي رأيًا. وحين تُختصر التَّربية في التَّوجيه من طرفٍ واحد، ينتج ذلك أجيالًا لا تعرف كيف تُعَبِّر عن احتياجاتها، ولا كيف تُفاوض على كرامتها. إنَّ أحَد التحدِّيات الخفيَّة الَّتي تواجِه حماية الطِّفل، ليسَتْ فقط في غياب القوانين أو ضعف الوعي، بل أحيانًا في قناعات راسخة ترى في الانضباط غاية، وفي الاستقلاليَّة خطرًا. وما لم نراجعْ هذه القِيَم المتوارثة، فإنَّ كُلَّ محاولات الحماية ستظلُّ سطحيَّة، مهما كانتْ نيَّاتنا حسنة. ليس كُلُّ أذًى يُرى. وبعضه يعيش في تفاصيل لا يَنتبه لها أحَد. في هذا السِّياق، يظهر نَوْع من الأذى لا يتحدث عَنْه النَّاس كثيرًا، رُبَّما لأنَّه لا يُرى ولا يُوثَّق بسهولة. أذًى لا يأتي على هيئة عنف مباشر، بل يتسلل في تفاصيل تبدو عاديَّة: مقارنة الطِّفل المستمرة بغيره، تعريضه المستمر للضُّغوط، تجاهل حاجاته النَّفْسيَّة الصَّغيرة لأنَّها «غير مهمَّة»، أو استخدامه في مواقف تفوق وعْيَه كوسيلة لإثبات شيء للكبار. تُظهر الدِّراسات النَّفْسيَّة أنَّ الأطفال الَّذين ينشؤون في بيئات لا تعترف بمشاعرهم أو تَسخر مِنْها، يُعانون لاحقًا من صعوبات في بناء علاقات آمِنة ومستقرَّة. وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال مُهمٍّ: هل نمتلك، كمُجتمع، ما يكفي من الوعي لفهمِ الطِّفل ككائن مستقلٍّ، له حقوق تتجاوز الحماية الجسديَّة إلى الرِّعاية الفكريَّة والعاطفيَّة؟ القضيَّة ليسَتْ في حماية الطِّفل من الغرباء، بل في حمايته من الأذى المقنَّع الَّذي يأتي أحيانًا من أقرب النَّاس إِلَيْه. من جهة أُخرى، يظلُّ العالَم الرَّقمي تحدِّيًا غير مسبوق. إذ لم تَعُدِ البيئة الآمِنة تتكوَّنُ فقط من الحيِّ والمدرسة، بل من المواقع الَّتي يزورها الطِّفل، والمحتوى الَّذي يتفاعل معه. وهنا تبرز أهميَّة الإجراءات الَّتي تسمح بتقييد الوصول إلى بعض المنصَّات الضَّارَّة، ليس من باب الرَّقابة، بل من باب الحماية الاستباقيَّة. ومع ذلك، فإنَّ نجاح هذه الإجراءات يعتمد أيضًا على مدى وعي الأُسرة ومهاراتها في توجيه الطِّفل، لا فقط مراقبته. جزء كبير من حماية الطِّفل يبدأ قَبل أن يقعَ في الخطر، حين نُحسن تهيئة بيئة تمنحه أدوات الفَهْمِ والتَّعبير. التَّربية اليوم لا يكفي أن تَقُومَ على المَحبَّة والرِّعاية، بل تحتاج إلى ما يُمكِن تسميته بـ»التَّمكين الهادئ»: أن نُعلِّمَ الطِّفل كيف يُميِّز بَيْنَ ما يُزعجه وما يُؤذيه، كيف يقول «لا» بثقة دُونَ أن يشعرَ بالذَّنْب، وكيف يلجأ إلى مَن يثقُ بهم دُونَ خوف من العقاب. هذا النَّوْع من التَّربية لا يُلغي سُلطة الكبار، بل يجعلها أكثر نضجًا؛ لأنَّها تُبنى على احترام الوعي لا على فرض الصَّمت. رُبَّما يكُونُ أهمُّ ما نحتاج إِلَيْه اليوم هو أن ننتقلَ من ثقافة «ردِّ الفعل» إلى ثقافة «الاستباق». أن نُحسنَ الإصغاء إلى الطِّفل قَبل أن يضطرَ إلى الصَّمت، وأن نتدخَّلَ قَبل أن تتفاقمَ المُشْكلة. أن نسألَ أنْفُسَنا، ببساطة، لا من موقع المحاسبة بل من باب المسؤوليَّة المشتركة: ما الَّذي يُمكِن أن نفعلَه ـ نحن كمُجتمع، كأفراد، كإعلام، كمربِّين ـ لِيشعرَ كُلُّ طفل بأنَّه في مأمن، ليس من الخطر فقط، بل من سُوء الفَهْمِ والتَّجاهل والإقصاء؟ في نهاية الأمْر، لا تُبنى المُجتمعات المتماسكة بالأنظمة وَحْدَها، بل بالوعي المتبادل. وطفل اليوم، هو مرآة ضميرنا. فإن ربَّيْنَاه على الأمن، أنشأ مُجتمعًا آمِنًا. وإن أهملناه، فلا قانون ـ مهما كان محكمًا ـ يستطيع إصلاح ما فات. ليس الطِّفل بحاجة لِمَن يحكم عَلَيْه، بل لِمَن يفهمه. فهل نمنحه هذا الفَهْم داخل الأُسرة قَبل أن يبحثَ عَنْه في مكان آخر؟

نبيلة رجب

كاتبة من البحرين

[email protected]