الأحد 25 مايو 2025 م - 27 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

النخبة بين سلطة المال وسلطة الفكر

النخبة بين سلطة المال وسلطة الفكر
الأحد - 25 مايو 2025 05:28 م

أ.د. محمد الدعمي

غالبًا ما نقع في أخطاء تؤول إلى تداعيات «جيليَّة» الأثر، لا تقتصر على جيل واحد، خصوصًا عِندَما نحاول أن نحددَ «النُّخبة» وأن نعرفَ وظيفتها ودَوْرها الاجتماعي الآن! ولا ريب في أنَّ غيميَّة الرُّؤية في هذا السِّياق تكمن وراء هذا النَّوْع من الغشاوة الخطيرة، فعِندَ أغلب أشقَّائنا المواطنين عَبْرَ العالَم العربي، لا يُمكِن أن تعنيَ «النُّخبة» سوى الأفراد الَّذين ينتمون للفئات الحاكمة، لذا يعمد المسيطرون على الدَّولة والممسكون بزمامها إلى انتقاء بعض «المحظوظين» ليضموهم إلى تلك «النُّخبة» المفترضة. ولا ريب في أنَّ هذا المعيار لا يتطابق مع معايير المفكر البريطاني الفَذِّ «ماثيو أرنولد» Matthew Arnold، فهذا الرَّجُل حرص على الفصل بَيْنَ النُّخبة الحقَّة، أي النُّخبة الفكريَّة من ناحية، وبَيْنَ النُّخبة الغنيَّة المبتلية بداء الشّلل الاجتماعي. وهو بذلك عمل بمثابرة للإقلال من شأن «نخبة الأغنياء» باعتبار أنَّ الهيمنةَ على السُّلطة (الحُكم)، إنَّما يعني السَّيطرة على مصادر موارد الثَّروات بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. لهذا السَّبب اتَّهم أرنولد نخبة الارستقراطيِّين (الأغنياء) بتهمة الشّلل الاجتماعي؛ نظرًا لتأنُّقهم المفرط وشللهم الاجتماعي، إذ لا تزيد أدوارهم عن ممارسة «ألعاب الأغنياء»، من نَوْع مطاردة الطرائد، كالثعالب، باستخدام الخيول والكلاب السلوقيَّة. إنَّ ما حاول أرنولد فِعلَه في هذا السِّياق إنَّما ينطوي على تحديد وترشيح نخبة جديدة قادرة على إصلاح المُجتمع، بعيدًا عن صالونات الأرستقراطيين، فقصد بذلك ما نحتاج إِلَيْه نحن الآن في عالَمنا العربي. وهي «النُّخبة الفكريَّة «Intellectual Elite ، أي نخبة المفكرين ورجال القَلم الَّذين يمارسون الكدح الفكري دُونَ توقُّع مردودات ماديَّة، كما يفعل أرباب العمل والأغنياء في بيئة الثورة الصناعيَّة حقبة ذاك (القرن التاسع عشر). وحسب منظوره أعلاه، ذهب أرنولد إلى أنَّ النُّخبة الحقَّة هي مجموعة من العقول الذكيَّة الَّتي تتمكن من أن توازنَ بَيْنَ النَّزعة الروحيَّة Hebraism من ناحية، والنَّزعة الماديَّة Hellenism ، وذلك بتتبُّع أُصول التياريْنِ التاريخيَّيْنِ أعلاه إلى مدينتين تاريخيتين، وهما: الأُولى، القدس، بوصفها منبع التَّقاليد الروحيَّة (الدِّينيَّة عامَّة)، بَيْنَما تتبع النَّزعة الثَّانية، إلى أثينا؛ بوصفها منبع العلوم والتَّقاليد الماديَّة الأوروبيَّة القديمة، في محاولة للإمساك بالعصا من الوسط، دُونَ الميلان المفرط إلى الروحيَّات على حساب الميلان المفرط إلى الماديَّات الَّتي الَّذي رمز له بالحضارة الإغريقيَّة والروميَّة القديمة ! وإذا ما نجح ماثیو أرنولد بالإمساك بدفَّة السَّفينة وسط بحر الثَّورة الصناعيَّة المتلاحم الهائج، نجد أنْفُسنا عَبْرَ العالَم العربي، الحائر، بحاجة ماسَّة إلى ذات التَّوازن الدَّقيق الحسَّاس بَيْنَ المادِّي والرُّوحي الآن، وهذا هو واجب النُّخبة الفكريَّة في العالَم العربي الآن، إذ ينبغي أن تَقُودَ هذه النُّخبة مُجتمعاتنا نَحْوَ برِّ الأمان دُونَ الانزلاق بَيْنَ مهاوي الماديَّة المفرطة، أو الروحانيَّة المتعامية! وهذه هي أهمُّ وظائف النُّخبة الفكريَّة العربيَّة الآن، بعيدًا عن البقاء حبيسي أعالي برج عاجي، قابلين بمنافينا الفوقيَّة!

أ.د. محمد الدعمي

كاتب وباحث أكاديمي عراقي