السبت 13 ديسمبر 2025 م - 22 جمادى الآخرة 1447 هـ

رأي الوطن: السياحة بين الطموح الاستراتيجي واختبار القدرة على التنفيذ

السبت - 24 مايو 2025 06:37 م

رأي الوطن

20

حين تُذكر سلطنة عُمان في سياق السِّياحة، تتبادر إلى الذِّهن تلك المشاهد الفاتنة الَّتي تحتضنُ الجبال والصَّحراء والبحر، لكنَّ الجَمال وَحْدَه لا يصنع صناعة.. فصناعة السِّياحة تخطَّتْ حدود العرض البصري، وأضحتْ منظومةً مترابطة من التَّشريعات والبنية والخدمات والهُوِيَّة.. وفي الحالة العُمانيَّة هناك إدراكٌ واضح بأنَّ هذا القِطاع يُمكِن أنْ يكُونَ بوَّابةً بديلة لتعزيزِ الاقتصاد الوطني وتنويعِه بعيدًا عن تقلُّبات الموارد الطَّبيعيَّة، خصوصًا أسعار النِّفط الَّذي لا يزال المَصْدر الرَّئيس للدَّخل، لكنَّ هذا الإدراكَ ـ رغم صحَّته ـ لا يكفي إذا لم يترافقْ مع خطوات جادَّة تتجاوز الاحتفاء اللَّفظي بالمُقوِّمات، فلا تزال البنية السِّياحيَّة في بعض المناطق تحتاج لزخمٍ من الخدمات والبنية الأساسيَّة؛ نتيجة غياب الاستثمار المحلِّي المستقرِّ، ومحدوديَّة البرامج الموجَّهة للزوَّار الدّوليِّين، ما يجعل القِطاع السِّياحيَّ ـ رغم ما يملكه من مُقوِّمات ـ يحتاج المزيد من الجهد؛ للوصولِ إلى الجاهزيَّةِ المنشودة، للتَّحوُّلِ من بلدٍ يملك مُقوِّمات إلى بلد يصنع تجربة سياحيَّة متكاملة، ولعلَّ نجاح هذا التَّحوُّل يعتمد على الإرادة وكفاءتها وقدرة القِطاع الخاصِّ على الدُّخول بثقة وديناميكيَّة للوصولِ إلى الأهداف المرجوَّة. وفي ضوء ذلك يُصبح المُلتقى التَّرويجي الَّذي أقامَتْه سفارة سلطنة عُمان في كوريا الجنوبيَّة، بالتَّعاون مع وزارة التُّراث والسِّياحة، أكثر من مجرَّد نشاط دعائي؛ وذلك لأنَّه محاولة لاختبار مرونة الرُّؤية أمام جمهور سياحي جديد له ثقافته وتوقُّعاته.. فالسُّوق الكوري ليس سهل الاختراق، ويحتاج إلى فَهْمٍ دقيق لطبيعة السَّائح الَّذي يُخطِّط لكُلِّ تفصيل قَبل أنْ يسافرَ. لذا فعَلَيْنا الاستعداد جيِّدًا لامتلاكِ البنية السِّياحيَّة القادرة على استيعاب طموحات هذا السَّائح المتطلب. وأكَّدتِ الكلمة الَّتي ألقاها سعادة السَّفير زكريا السَّعدي في الفعاليَّة عن وجود إيمان عُماني حقيقي بأهميَّة التَّواصُل الحضاري، وهي تصريحات تحتاج قَبل أيِّ شيء لجهودٍ مضاعفةٍ لمواجهةِ التَّطوُّر المُطَّرد لصناعةِ السِّياحة، والتَّكيُّف مع التَّحوُّلات المُهِمَّة في هذه الصِّناعة الواعدة، فالتَّرويج وَحْدَه لا يكفي، ما لم يَتبعْه تكييفٌ للمنتَج السِّياحي، وتطويرٌ للكوادر المحليَّة، وتنسيقٌ فعَّال بَيْنَ مزوِّدي الخدمة. فنحن لا نبيع تذكرة طيران فقط، بل نَعِدُ الزَّائر بتجربة مُتفرِّدة، مؤهّلة بما نملكه من منتَجات سياحيَّة متنوِّعة، قادرة على فرض نَفْسِها بقوَّة على خريطة السِّياحة العالَميَّة، بشرطِ مُواكَبة كُلِّ تطوُّر، ودراسة الأسواق بالعناية المطلوبة لتلبيةِ احتياجاتِها. وعلى الضفَّة الأخرى من آسيا، بدتِ المشاركة العُمانيَّة في مَعرِض إكسبو أوساكا 2025، خطوةً في الاتِّجاه الصَّحيح من حيثُ الرَّغبة في تقديم التُّراث والثَّقافة كأُصولٍ قابلة للتَّصدير السِّياحي، لكن ما نحتاجُه في هذا النَّوع من المحافل الدّوليَّة أكثر بكثير من تقديم عروض جذَّابة وأركان ملوَّنة، فنحن نحتاج أوَّلًا إلى رواية موَحَّدة تعكس الشَّخصيَّة العُمانيَّة الحديثة، الَّتي تجمع بَيْنَ الأصالة والقدرة على التَّحديث، والتَّحدِّي الحقيقي هو أنْ نظهرَ للزَّائر الياباني ـ الَّذي يتميَّز بذائقةٍ عالية وحرصٍ على التَّفاصيل ـ أنَّ عُمان ليسَتْ فقط مكانًا جميلًا، بل بلدًا يُمكِن الوثوق بجودة تجربته.. ومن هنا تأتي أهميَّة التَّكامل المؤسَّسي بَيْنَ وزارة التُّراث والسِّياحة، ووزارة الثَّقافة والشَّباب، والمفوضيَّة العامَّة، حيثُ يَجِبُ أنْ تعملَ تلك المؤسَّسات ضِمْن تنسيقٍ كامل لا يترك فجواتٍ تُفسد الصُّورة، فالسِّياحة اليوم لم تَعُدْ عمليَّة تسويق فقط، بل هي عرضٌ لِهُوِيَّة وطنيَّة، وإذا لم نُحسنْ تقديمَها، سنفقد ميزة نادرة في سُوق يتطلب اتِّساقًا واحترافًا، وقدرةً على الإبداع. ما يَجِبُ التَّوقُّف عِندَه بجدِّيَّة هو أنَّ الحكومة العُمانيَّة ـ رغم التَّحدِّيات الَّتي ذكرناها ـ تُدير ملفَّ السِّياحة بنهجٍ واقعي بعيدًا عن الاندفاع غير المدروس، فعوضًا عن ضخِّ ملايين في حملاتٍ سريعة أو نَسخ تجارب الدوَل المجاورة، نراها تتحرك بخطواتٍ محسوبة لبناء نموذج يعكس هُوِيَّة الدَّولة ويُناسب إمكاناتها، وهو ما يُحسب لها، فإقامة مُلتقيات في كوريا، والمشاركة المدروسة في إكسبو اليابان، ليسَتْ تحرُّكات عشوائيَّة، بل جزء من استراتيجيَّة تستهدف أسواقًا بعيدة لكنَّها واعدة، استراتيجيَّة تُراهن على زائر يقدِّر الخصوصيَّة والعُمق الثَّقافي. وفي المقابل تعمل الجهات المختصَّة داخليًّا على إعادة هيكلة القِطاع، وتعزيز الشَّراكة مع القِطاع الخاصِّ، ورفع كفاءة البنية الخدميَّة، وهو جهدٌ يستحقُّ التَّنويه.. صحيح أنَّ الطَّريق لا يزال طويلًا، لكنَّ الواضحَ أنَّ هناك رغبةً حقيقيَّة في أنْ تكُونَ السِّياحة أحَد أعمدة الاقتصاد العُماني؛ لا مكمِّلًا له، وهذه الإرادة السِّياسيَّة، إذا ترافقتْ مع كفاءة تنفيذيَّة ومُرونة تشريعيَّة، ستجعل من سلطنة عُمان قصَّة نجاح مختلفة، لا تُقارن بحجمِها، بل بصدقِ مشروعِها.