أوَّلًا: بَيْنَ الأمس واليوم. قَبل عقود ليسَتْ بالبعيدة كانتِ المُجتمعات البشريَّة تنظر بشيء من الريبة والقلق، وتتعامل بازدراء مع الغرباء الَّذين يكتشفونهم فجأة، يشاركونهم طاولات طعامهم وشرابهم في المطاعم والمقاهي، ويتجولون في أسواقهم ويجوبون الأزقة والحارات ويكتشفون الآثار والمواقع السياحيَّة ويسجلون ملاحظاتهم في النوتات الَّتي يحملونها معهم، يتأمل أصحاب البلاد الأصليون ملامح هؤلاء الدخلاء المتطفلين على حياتهم وتقاليدهم وخصوصيَّتهم باستغراب وقلق وغموض، فقد أشكل عَلَيْهم سبب وجودهم، يشيرون باستهزاء إلى ملابسهم وتصرفاتهم، ويثيرون حَوْلَهم الجلبة للتعرف على الغرض من تجولهم في بلادهم، وأُصولهم وأعراقهم وانتمائهم الدِّيني... وقد تسجل مواقف وحالات خلاف وشجارات وسُوء فَهْم سببها حركة أو كلمة أو ممارسة ما، تتباين معانيها ودلالاتها ومحتوى رسائلها بَيْنَ مُجتمعين، تدخل في فضاءات العيب والشَّر والمذمَّة والمحرَّم، أو عكسها... هذه الملامح والمظاهر والمشاهد رصدَتْها ووثَّقتها أقلام رحَّالة وباحثين وعابرين وحتَّى سياحًا، قَبل أن تتبلورَ وتتطورَ مفاهيم السِّياحة وتنتشر، وتصبح ثابتًا في الوعي العام للمُجتمعات في مختلف مناطق العالَم وبلدانه، وقَبل أن تتقدمَ وتنشطَ وتنموَ قِطاعات النقل والاتصال والسَّفر، فيبدو لنا العالَم صغيرًا واضحًا ومفهومًا ومعلومًا، فلا غرو أن يطلقَ عَلَيْه «القرية الكونيَّة»، فأصبحتْ علامات الاستغراب والتخوف من الغرباء جزءًا من الماضي... وقادتْ قِيَم العولمة وتقدُّم ونُمو وسائل النقل وبالأخص قِطاعا الطيران والسكك الحديديَّة، وازدهار وانتعاش السَّفر، وتعدُّد أشكال وصوَر ودوافع الهجرة من الأوطان إلى بدائل وأمكنة أخرى بحثًا عن الأمن والعمل والتعليم والعلاج والاسترخاء، وتداخل وتشابك الأعمال والتجارة والمصارف والشركات والعلامات العابرة للقارَّات، بل وحتَّى المؤسَّسات والمراكز السياسيَّة ـ الثقافيَّة، الَّتي تمتلك فروعًا في مُعْظم مناطق العالَم، وتحتِّم على موظفيها التنقل والانتداب والعمل في بيئات متعدِّدة، وحركة وتحويلات الأموال والأعمال والبرامج السينمائيَّة والتلفزيونيَّة أفلامًا ومسلسلات وتوثيقًا، الَّتي جعلتِ المُجتمعات تألف وتعتاد بعضها وتعي حقيقة هذا التحوُّل الهائل، درجة أنَّها هي مَن تقوده وتعمِّقه، وتمتزج وتتداخل وتُسهم في اتساع ثقافته وتقاليده وممارساته اليوميَّة، فلم تَعُدْ تشكِّل عَلَيْها هذ الحشود البشريَّة القادمة والمغادرة والسائحة في بُلدانها، ولا تكترث أو تهتمُّ ولا يسترعي انتباهها اختلاف أو تمازج الملامح والسحنات والأشكال والملابس والتقاليد والأطياف والانتماءات البشريَّة... الَّتي تنصهر في بوتقة واحدة، فالكُلُّ مشغول حتَّى الثمالة بشؤونه وأعماله والوصول إلى مقاصده وأهدافه، وهو ما قاد إلى انفتاح الشعوب والثقافات والتقاليد على بعضها بعد انغلاق وتزمُّت وتشدُّد، وتماهتْ عبارة «الخصوصيَّة»، ومحتواها درجة أنَّه لم يَعُدْ لها في الحقيقة من ضرورة في هذا الفضاء العالَمي المتداخل، المتشابك والمتواصل بعُمق وفاعليَّة ونشاط لم يحدُثْ مثله في تاريخ الإنسان... فيما تظلُّ المطارات ومحطَّات القطارات والترام، ووسائل النقل العام الأخرى مثل سيَّارات الأُجرة (التاكسي) والحافلات، الفنادق، الأسواق، والحدائق، والمتاحف والآثار والأبنية الَّتي لا تزال محافظة على أنماطها المعماريَّة القديمة... عاكسةً لثقافة المُجتمعات، وتقاليد الحياة عِندَ الشعوب، وعُمق إيمانها بالفنون والإبداع، وازدهار الدول ونُموها، أو ضعفها وانكماشها، سهولة أو تعقيد الإجراءات، الانضباط، تقدُّم التقنية ومستوى تطبيقاتها، شكل العمارة، ضخامة البناء وبذخه... معَبِّرَة عن الروح الحقيقيَّة لأيِّ مُجتمع، معلنةً عن مؤشِّرات حقيقيَّة تَدُوْر حَوْل العِلم والمعرفة، الاقتصاد، الدِّين، الحُريَّات، تعدُّد الثقافات، وتحفّز على طرح التساؤلات وإجراء المقارنات وتعزيز الوعي، واستيعاب وفَهْم ما نجهله وغاب عنَّا، لذلك تظلُّ تجارب السَّفر والتطواف بَيْنَ بُلدان ودول العالَم من روافد المعرفة والتثقيف الأساسيَّة، وما حُبِّي لمِثل هذه الرحلات إلَّا إدراكًا لمنافعها الواسعة، ألَم تؤطّر منافع السَّفر، في «خمس فوائد؟ تفريج همٍّ، واكتساب معيشة، وعِلم، وآداب، وصحبة ماجد...»، وهي في الحقيقة أكثر اتساعًا وفوائد مما قيل. «فيتنام»، هذا البلد المشاغب والهادئ في آنٍ، القابع في بقعة صغيرة بمنطقة جنوب شرق آسيا على حدود الصين، كيف تسنَّى له أن يصبحَ نموذجًا للعمل التحرري والروح البطوليَّة والإرادة العظيمة، أنجبَ مقاوَمة نادرة وقدرات هائلة حصدت وسامًا فخريًّا دافعه واستحقاقه إلحاقها الهزيمة بدَولة استعماريَّة عظمى يهابها العالَم، وتعمل القوى الأخرى ألف حساب لترسانتها التسليحيَّة الضخمة المتطورة؟ كيف تحوَّل الشَّعب الفيتنامي إلى أيقونة أضاءت سماء العالَم بما حققه من إنجاز لم يتسنَّ لغيره فطهَّر أرضه من أقوى جيوش العالَم الاستعماريَّة، وألحقَ العار بالولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، وطرد آخر جندي من بلاده بعد أن أنهكَ وفكَّك ودمَّر أسلحتها المتطورة ذات التقنيَّات العالية، وحطَّم نفسيَّة قادتها وجندها وكبَّدها خسائر دوَّى صداها سماء العالَم؟ وباتتْ فيتنام ظاهرة وإضاءة للمقاوَمة وشعلة للتحرير لا تنطفئ، وإرادة للشُّعوب الَّتي لا تُقهر، ألهبتْ وألهمتْ حماس وخيال الكتَّاب والروائيين والسينمائيين فقدَّموا أجمل وأفضل وأعمق وأكثر الروايات والمقالات والأفلام والبرامج الوثائقيَّة نجاحًا وإدهاشًا وإبهارًا، وقدرة على الاستمرار والبقاء، ويا لها من ساعات مثيرة وحماسيَّة وممتعة تلك الَّتي قضيناها في قراءة ومشاهدة الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة والسينمائيَّة العالَميَّة الَّتي تناولتْ تضحيات الشَّعب الفيتنامي المقاوِمة للغطرسة الأميركيَّة وهيمنتها وقوَّتها الاستعماريَّة، وصورت في تلك البيئات الساحرة وعوالم الأرياف والبساتين والأدغال والأحراش والغابات الخضراء المشبَّعة بمياه الأنهار والجداول العذبة، وانتابنا الحزن على ذلك الريف الباذخ الَّذي ينضح خضرة وجمالًا وحسنًا وبهاء يقوّض ويدمِّر وتفجر أراضيه ويشهد أشرس المعارك وتحرق مزارعه وأفدنة الأرز الزاهيَّة الَّتي تمد الأسواق بوجبة الفقراء الأساسيَّة، وتضامنًا مع حقِّ الشَّعب الفيتنامي في العيش الكريم والحُريَّة والإرادة، وأعجبنا ببسالته ورقصنا فرحًا واحتفلنا ابتهاجًا بنصره. شرارة النضال وعشق الحُريَّة والانتصار المدوِّي والطبيعة الباذخة الجَمال، حفَّزتني لزيارة فيتنام، وتسجيلها ضِمن برنامجي الخاص بالتطواف إلى عددٍ من بُلدان العالَم، متلهفًا للتعرف على ثقافة هذا الشَّعب الأبي، محاولًا اقتناص الفرص الَّتي تتفلتْ سنَة بعد أخرى إلى أن حان قطافها ولاحت فرصة التحقيق من رحم المقترح الَّذي ألقاه الصديق «أبو عدنان»، حافظ المسكري، في بدايات هذا العام، بزيارة فيتنام في مايو ٢٠٢٥م، ألحقتُه مباشرة بالموافقة والتأييد، ومن لحظتها بادر أبو عدنان بالتنسيق والمتابعة مع رفيقنا الثاني وصديقنا المود «أبو المهند»، علي الفليتي، في إعداد البرنامج وحجز التذاكر والفنادق وغيرها من الإجراءات الَّتي لا تتحقق بهجة التطواف ونجاحه بدُونِها، فلهما خالص الشكر وعظيم الاحترام.. «يتبع».
سعود بن علي الحارثي