الاثنين 26 مايو 2025 م - 28 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق: خطيب الجمعة وصناعة الأثر .. انتقوا الخطباء وأعدوهم للمهمة

في العمق: خطيب الجمعة وصناعة الأثر .. انتقوا الخطباء وأعدوهم للمهمة
السبت - 24 مايو 2025 05:49 م

د.رجب بن علي العويسي

40

يمثِّل الوعي الجمعي اليوم ضرورة وطنيَّة في صناعة التغيير وبناء مُجتمع متماسك فكريًّا متناغم معرفيًّا يأخذ بِيَدِ بعضه البعض في ظلِّ كومة التحدِّيات والتراكمات الَّتي باتتْ تشوِّه صورة البناء الفكري للأجيال. وكُلَّما انطلق الوعي الجمعي من مرتكزات أصيلة وموجِّهات حكيمة ومنطلقات رصينة قائمة على مبادئ الدِّين وقواعده وأُسُسه، ووفق تأصيل علمي وبناء منهجي وفلسفة فكريَّة يؤسسها التعليم عَبْرَ مناهجه وبرامجه، ومن خلال منظومة إعلاميَّة توعويَّة وتثقيفيَّة مؤطّرة وموجّهة تتفاعل مع العقل والشعور وتستنطق القِيَم وتستنهض الدوافع والرغبات وتبني على فِقه أصيل وثقافة ممتدة لجذور التاريخ ووسائل وأدوات متجددة وقابة للتكيف، ومنصَّات تواصليَّة وبرامج وتشريعات تعظِّم من قِيمة الكلمة الصادقة والمعرفة الحقَّة؛ كان لذللك أثرة الإيجابي في بناء مُجتمع متوازن فكريًّا يمتلك المهارات والقدرات والاستعدادات ويستوعب التغييرات وحجم التسارع في المعرفة البشريَّة وضبطها بضوابط الدِّين والعقل والنقل، لتبقَى هذه المرتكزات مسافات آمِنة وخيوطًا متصلة وجسورًا ممتدة تضْمن الحفاظ على درجات التوازن في البناء الفكري والسلام الداخلي. ولعلَّ من بَيْنِ أهمِّ الوسائل والأدوات الَّتي بات لها حضورها في حياة المُجتمع وترتبط بموجِّهات عقيديَّة دينيَّة وإيمانيَّة تسهل من رفع درجة الشعور الجمعي بالقِيمة المضافة المتحققة من المحتوى والبنية المعرفيَّة؛ تأتي منابر الجمعة والأثر المنتظر من الالتزام بالمفاهيم والتطبيقات العمليَّة وتجسيدها في حياة المسلم، كأحد المرتكزات الَّتي يحتاجها الوعي الجمعي المستدام. فلا يُمكِن صناعة مُجتمع واعٍ بحسِّ الكلمة ومصداقيَّة المحتوى ورصانة الفكرة وإلهام العبارة، دُونَ أن يكُونَ للمنبر الجمعي حضور في رسم معالمه، لذلك باتَ ينظر اليوم لخطبة الجمعة باعتبارها قوَّة إلهام تغييريَّة، وأداة ووسيلة وأسلوبًا عمليًّا في توجيه الرأي العام، وقناة اتصال وتواصل ومساحة للتأمل والنظر وبعث الروح الإيجابيَّة في الانتقال بالخِطاب الدِّيني والمحتوى القِيَمي والأخلاقي الَّذي تضمُّه المنابر الجمعيَّة إلى مرحلة متقدمة تظهر في منطوق الخطاب وأساليب التعامل والحوار؛ نظرًا للميزة التنافسيَّة النسبيَّة الَّتي تحققها في رفع الوعي الجمعي، وتأصيل ثقافة المسؤوليَّة. وبالتالي ما يعنيه ذلك من ضرورة الانتقال بخطَّة الجمعة عَبْرَ صناعة الأثر الناتج عنها باعتباره المحكَّ الرئيس الَّذي يضْمن لهذه الخطبة التأثير والفاعليَّة في المشهد الاجتماعي، فهي ليسَتْ مجرَّد كلمات تُلقى على منبر الجمعة، بل بما تحمله من فضائل وتؤسِّسه من وازعٍ، وتضبطه من سلوك، وتقدِّمه من إلهام وتؤسِّسه من سلوك؛ منصَّة لتعزيز الوعي وصناعة الأثر، وتشكيل الوعي الجمعي وتجديد الحماس الوطني والديني واستنطاق القِيَم، وتوجيه السلوك. لتمثلَ في الوقت نفسه أدوارًا محوريَّة في البناء الفكري، وتمارس مهام متعددة تربويَّة، وإعلاميَّة، واجتماعيَّة، وروحيَّة، ترفع من درجة الوعي وتنشط حركة التفكير والـتأمل؛ فتصبح الخطبة محطَّات فكريَّة ومعرفيَّة نابضة بالحياة صانعة للتغيير، وينتقل الخطيب من دَوْر القارئ للخطبة والناقل لكلماتها أو المكرر لعباراتها، في غربتها عن الواقع وغيابها عن المشهد دُونَ ربطها بالواقع؛ ينتقل إلى العمق فهو صانع للأثر، محدِث التحول فيمن حوله بهذه الكلمات الَّتي تنساب كالنهر تلامس القلوب وتفتح آفاقًا رحبة للعقول، فيبث فيهم الأمل، ويعالج قضاياهم عَبْرَ تعظيم أثر الآيات القرآنيَّة والأحاديث الشريفة والمواقف والعِبَر؛ باعتبارها حلولًا للواقع ومصححات للسلوك، فيواكب أحداثهم، ويتفاعل مع قضاياهم وينتصر لآمالهم وطموحاتهم ببصيرة ووعي؛ لتضعَهم هذه الكلمات النابعة من قلب صادق وروح متجددة وإنسانيَّة حالمة وقلب رحيم وعقل مستنير أمام موقف رهيب وتغيير ذاتي وتصحيح في المسار ومراجعة للسلوك ووقفات على الماضي وإرادة تغييريَّة نَحْوَ المستقبل بما يضيفه إِلَيْها من صدى الصدق، وصوت الوعي، وحُسن القول، ورقَّة المشاعر، وذوق الكلمة وعظمة الـتأثير. إنَّ استشعار حجم التغيير المطلوب والأثر الَّذي يَجِبُ أن يحدثَه الخطيب يبدأ بإدراكه وقناعاته بأنَّ منبر الجمعة مسؤوليَّة لا وظيفة، رسالة حياة وليس قراءة كِتاب، إنَّها تكامل الروح والجسد في إخراج المنطوق الفكري والمعرفي ليصلَ إلى أقصى مدى، ليس عَبْرَ الصراخ اللافت والحماس الزائد؛ بل في استحضار المشهد، واستشعار الموقف، لتصلَ مدلولات الرسالة إلى الهدف. لذلك نشاهد في بعض المنابر الجمعيَّة ـ وللأسف الشديد ـ أشخاصًا لا يملكون أدنى المهارات الَّتي تحتاجها منابر الجمعة ويتقدم إِلَيْها من لا يحسن القراءة والنطق والتعبير، ولا يملك ممكنات الخطابة وأدواتها، لذلك تنتاب المصلِّين حالة من الملل والضجر وحالة عدم الارتياح ورغبة الانتهاء من الخطبة، ونظرة الدهشة والاستغراب الَّتي تملؤ وجوههم نظرًا لتلعثمه وكثرة أخطائه فيأتي إِلَيْها مثقلًا ويحدِّث بها بتثاقل، فلا إعداد ذاتي أو استعداد شخصي لذلك يكثر لغطه وتزيد أخطاؤه، في إشارة واضحة إلى الصورة المشوّهة الَّتي باتَ يسقطها تصرف البعض مِنْهم على خطبة الجمعة، متجاهلًا ما تحمله من دلالات الوعي وترسيخ الوحدة وتعظيم الاحتواء وتقدير الاحترام وتعظيم شعائر الله؛ فهي منصَّة تعليميَّة يتفاعل معها المُجتمع بقلبه وعقله وروحه ونبضه وصدق مشاعره، تهذيبًا للروح وتجديدًا للثقة وترقيةً للأخلاق ومحافظة على منطوق الكلمة الطيبة لتظلَّ كالشجرة الطيبة عظيمة الأثر، كريمة الأصل، بهيَّة الطلة، راقية المزاج، بما تتركه من أثر وما تسطِّره من أُطر، وتحتكم إِلَيْه من تشريع، لتظلَّ كلماتها عميقة تتفاعل مع المصلِّي ليبلغَها أُسرته وأبناءه، ويتناقلها عَبْرَ منصَّات التواصل الاجتماعي و»الواتس آب» في ظلِّ ما تحظى به المنابر الجمعيَّة من حضور الوافدين، لتصبحَ فرصة لتعزيز الوعي الجمعي لهذه الفئة بواجباتها ومسؤوليَّاتها وخصوصيَّة المُجتمع. من هنا تأتي أهميَّة أن تتبنى وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة وفي إطار حوكمة المساجد والجوامع سياسات وبرامج وطنيَّة مستدامة تستهدف صناعة «الخطيب المؤثر» وعَبْرَ تعظيم دَوْر المنابر الجمعيَّة في بثِّ الوعي الجمعي التنموي وترسيخ الهُوِيَّة والقِيَم والخصوصيَّة العُمانيَّة ورفع درجة الضبطيَّة الأخلاقيَّة الَّتي تبثها المنابر الجمعيَّة خصوصًا في ظلِّ ما تحظى به من حضور الوافدين، وتصبح منابر الجمعة فرصة ثمينة في تعريف هذه الفئة بواجباتها ومسؤوليَّاتها وضرورة إدراكها للقِيَم والأخلاق والمبادئ الَّتي يلتزم بها المُجتمع؛ ما يؤكد على أهميَّة إعادة هيكلة معايير اختيار وتأهيل خطباء الجمعة، وضرورة مراجعة وتقييم آليَّة اختيار الخطباء، وتدريبهم، وتأهيلهم علميًّا وفكريًّا ونفسيًّا؛ بحيثُ تتجه نَحْوَ صناعة المؤثرين الجماهيريين، ومن يمتلكون القدرة الخطابيَّة، ويحظون بالقَبول الجماهيري، بما يحمله هذا الأمر من شعور ذاتي بعظمة المنابر الجمعيَّة ودَوْر الصوت الجمعي في صناعة النخبة المُجتمعيَّة الَّتي تعي ما تحمله المنابر الجمعيَّة من أثر، عندها ينشط خطيب الجمعة في قراءة وجوه المصلِّين ومستوى الإنصات والشغف لدَيْهم في إنتاج الخطاب الجمعي بطريقة نوعيَّة وبأُسلوب يحاكي الواقع، فيعرف مُجتمعه، ويقرأ تحدِّيات واقعه، ويُحسن التعبير بلغة النَّاس وهمومهم وطموحاتهم، بأُسلوب متوازن وقراءة تحمل في ذاتها مرتكزات التغيير وحلول المعالجة. ومع ذلك يبقى الاستفادة من الفرص الوطنيَّة المتاحة في هذا الشأن وإسقاطها على إعداد المؤثرين في المنابر الجمعيَّة وإنتاج الخطباء الفاعلين مرهون باكتمال الجزء الآخر من المعادلة من خلال رصانة المحتوى في الخطب الجمعيَّة وتنوعه وجاذبيته وقابليته للتكيف مع مستجدات الواقع وتفاعله مع طموحات النَّاس وهمومهم وعَبْرَ تطوير محتوى الخطبة الموحَّدة أو الإرشاديَّة، وتعدد موضوعاتها وانتقاء واختيار موضوعاتها من خلال مسارات الرصد اليومي لما يجري في السلوك الاجتماعي في مختلف المجالات لِتكُونَ مرتبطة بالواقع، ومحفِّزة للسلوك الإيجابي ودافعة نَحْوَ التغيير الداخلي. أخيرًا، كم من خطبة جمعة على يد خطيب مؤثر وملهِم، وجد في كل دقيقة وقفها على المنبر بمسؤوليَّة والتزام حاضرًا بشخصه وشخصيَّته حتَّى ملأ نفوس من سمع وحضر خطبته إعجابًا وتقديرًا بحُسن منطوقه وإشادة بسُمو كلماته، وصنع من كُلِّ كلمة في الخطبة قوَّة في التأثير، فأنتج بكُلِّ كلمة نطق بها أو إعادة نطقها بشغف ورغبة وانتصار للحقِّ فرصة لبناء وعي، أو تصحيح سلوك، أو بث أمل في قلوب حائرة، أنهكت تفكيرها ظروف الواقع لتجدَ في منطوق الخطيب فسحة أمل ونافذة حياة وانطلاقة متجدِّدة وروحًا تغييريَّة واحتواء وارتواء.. ألا فاصنعوا من خطباء الجمعة مؤثرين وملهِمين ورقمًا صعبًا له حضوره؛ اختاروهم بعناية، وأعدّوهم بإتقان، لِتكُونَ منابر الجمعة منصَّات للإصلاح، والتطوير وإعادة هندسة السلوك الاجتماعي وتعظيم القِيَم والأخلاق، واحتواء النماذج والأعمال الجليلة.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]