.. ويرى المسلمون في أقطار الأرض ـ على اتساعها ـ معنى المحبة واقعًا ملموسًا، ويجدون كذلك مفهوم المودة، والرحمة، والأخوة الإيمانية التي غرسها الإسلام في دماء، وعقول، وأفئدة، وأرواح أهله، وأتباعه، وقد تعلَّموا منها أن يكونوا متعاونين طيلة العام، يعطي الغنيُّ الفقيرَ، والواجدُ المعدمَ، وتدور الأخوة بين دول العالم الإسلامي كله، ويحمد الناس ربهم على نعمة الإسلام، وجلال الإيمان، ومنة التعاون، حيث تتجلى قضية الإيمان واقعًا معيشًا، ومشاهدًا. ومن تلك المنافع الدنيوية: شراءُ الحجاج، والمعتمرين ثيابَ الحج، والعمرة من التجار في تلك الأماكن، وتحريك حركة البيع والشراء، وكسب الرزق الحلال، وإسعاد الأسر الفقيرة التي توفِّر تلك الثيابَ التي يلبسها الحجاج، والمعتمرون على مدار الساعة؛ حتى لا ييأس أحدٌ من عدم وجود ملابس الإحرام، فكان ذلك مدخلًا طيبًا من الإسلام، فتوجه الاهتمام به، وسهر التجار على تيسيره، وتوفيره لمحتاجيه بسعر ميسر، ومقبول، كما أن انتقال الحجاج من منسك إلى آخرَ، وخصوصًا الانتقال من المشعر الحرام، أو المزدلفة إلى مشعر مِنَى، ففيه نوع من السعي الحلال، والتجارة، وتوصله السياراتُ ميسَّرًا للمحتاجين، ومنه يتمكَّن الحاجُّ من أداء النسك على الصورة الصحيحة رداءً، وإزارًا له مواصفاته الشرعية، ومنها أن يرتزقَ التجارُ جراءَ هذا الشراء المتتابع، فالله يجعل من مناسك الحج حِكَمًا، منها يُسْرُ الارتزاق الحلال، والسعي لابتغاء الفضل من الله، وليس في ذلك مثقالُ ذرة من حياء، أو تردد: أننا نبيع، ونشتري في زمان الحج؛ لأنه دين الإسلام الصالح، والمصلح لكل زمان، ومكان، ولا رهبنة فيه، ولا مَدّ الأيدي لها، ولغيرها، وانتظار أن يوافقَ، أو يرفضَ المعطِي عطاءَه، ففتح الإسلامُ المجالَ واسعا لابتغاء الفضل، وشهود المنافع، وستر النفس عن سؤال الآخرين، أجابوا، أم رفضوا، وهذا معناه وعي شريعة الإسلام بمطالب النفس الفطرية، وضخها دمَ العزم، والسعي، والجرأة، وعدم انتظار الفضل من أحد، بل شرع لهم البيعَ، والشراءَ وعقدَ الصفقات، والتكسبَ الحلالَ، في أوقات الحج، وأزمنته الغالية، فشرع الإسلامُ لهم ما يلبِّي حاجاتِهِمْ، وينهض بمتطلباتهم، وأقضياتهم. ومن حِكَمِ الحج، وفلسفته، وأجمل مقاصده الحياتية والدنيوية هي: قضية التعارف، والتآخي بين الشعوب، والبشر، قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات ـ 13). فالحج فرصة عالمية، لا محلية، أو إقليمية فقط للتعارف الإنساني، وتبادل الخبرات، والتجول في عقليات الجنسيات التي تصاحبها في الحج، وتعيش معها كل تلك الفترة الزمنية الكفيلة بترسيخ أواصر المحبة، وخيوط المودة بين جنسيات الكون، والتعارف الكوني، وتجاوز التعارف الإقليمي، والاجتماعي العادي، إلى ما هو أوسع، وأرحب حتى إنه ليشمل كلَّ أجناسِ الأرضِ الذين يُعَدُّونَ مكاسبَ حقيقيةً، ويتعارفون، ويتآلفون، وقد يلتقون فيما بعد عندما يتزاورون، بل قد يتصاهرون، وتتكون أسرٌ دولية، ويكون الحجُّ السببَ المباشر في إقامة تلك العلاقات الأسرية الدولية من خلال الحج، والعيش في ظلال مقاصده الوارفة، وحِكَمِهِ السامية، ومقاصده الراقية، التي تجمع، ولا تفرق، وتبني، ولا تهدم، وتعمِّر، ولا تدمِّر، ومنها كل تلك الأموال التي يحصلها أهلُ البيوت، والعمائر، والفنادق، والسيارات، والمطاعم.. وغيرها من متطلبات الحجاج، والتي ينتفع منها أصحابُها؛ حيث يعتاشون عليها طوال العام، فهم في الحج يجوبون، ويستخدمون كثيرا من مطاعمهم، وسكنهم، وسياراتهم، ومحالهم التجارية، في حركة تجارية دولية، يمكن أن تحصِّل من ورائها تليريوناتِ وملياراتِ الأموالِ، التي تُغنِي التجارُ، وتُسْعِد الحجاجَ، وتمضي معهم إلى ما بعد انقضاء الموسم الكريم، ويكونون قد حَصَّلُوا أموالًا طائلة يعيشون عليها حتى يأتي الحج من قابل، وهكذا في كلِّ عام، يأتي فرض الحج، فتنتعش التجارة، ويعمُّ الخير بكل أنواعه، وألوانه، وأشكاله، وهو معنى ابتغاء الفضل من الله، ومفهوم تحصيل المنافع في تلك الفترة المباركة من عمر تلك المناسك التي تًحْصُلُ سنويًّا، ويجد فيها أهلُ الحرمين ما يعتاشون عليه من جراء التجارة: بيعًا، وشراء، وسكنًا، وطعاما، وشرابا، وركوبا، وزيارة للمسجد النبوي، والعودة إلى البيت الحرام، وتنشأ حركة تجارية غير عادية في تلك الأوقات المباركة في كلِّ عام، ويجدِّد أصحاب البيوت، والمساكن بيوتهم، ويوسِّعونها، ويملؤونها من الأسِرَّة، ومتطلبات الحياة من أجهزة كهربائية، وخدمات مُوَسَّعة، ويطورونها سنويًّا لتريح الحجاج، وتلبِّي احتياجاتهم، ومتطلبات حجهم، وزياراتهم للمزارات المختلفة في كل من مكةَ المكرمةِ، والمدينة المنورة، وكل الأماكن الطاهرة كمشعر عرفات الله، والمشعر الحرام، ومشعر منى.. وغيره من الأماكن الطاهرة التي يريد الحجاج رؤيتها، والتعرف عليها، والتصوير عندها؛ لتكون ذكرياتٍ طيبةً لهم، ومعهم، يسترجعونها وقتَ ما يشاؤون، ويتذكرونها أينما، وحيثما يرغبون، وكلُّها يأتي من ورائها الخيرُ الكثيرُ، والمالُ الوفيرُ.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية [email protected]