لا يزال الكلام عن الحج مستمرًّا؛ فإن الحَجَّ من أعمال الوصول إلى الهح تعالى، ولا وصول إليه إلا بالتجرد، والانفراد لخدمته، وقد كان الرهبان يذهبون إلى الجبال لينفردوا؛ طلبًا للأنس بالله، فكان الحج رهبانيةَ هذه الأمةِ. إن من آداب الحج أن يكون خاليًا فى حجه من التجارة التى تشغل قلبه، وتجعل همه متفرقًا، فيكون الاجتماع على طاعة الله تعالى، وعندما نقول هذا، فلا نحرم ما أحله الله من إباحة التجارة في أثناء شعائر الحج، ولكنَّ السبق للأسواق والمعاملات يُلهِي من يحج عن المقصد الأعظم للحج، وهو ذكر الله، وإفراغ القلب لعبادته. ومما يشغل القلب أيضًا، ويضيِّع الوقت الثمين الذي لا يقدر بأموال الدنيا هو الاشتغال بشراء الهدايا من الأسواق، وإنْ كانت الهدية من المستحبات، إلا أن ذلك يأكل الأوقات السمينة التى لا تتوفر لأغلب المسلمين إلا مرة واحدة فى العمر، وخاصة مَنْ يقدُمُ منهم من الآفاق، والأمصار البعيدة، فيا لها من أوقات غالية!، ينبغي ألا تُنفَق فى الأسواق، ويستطيع مَنْ يقوم بالحج أن يؤجِّل شراء الهدايا حتى يرجع إلى بلده، أو يُوكِّل من يشترى له في البلد الحرام ممَّن لا يحج؛ حتى يستفيد من هذه الأوقات الطيبة. وينبغي على الحاج أن يتجنب ركوب المحمل، أو الكراسى المتحركة إلا لعذر، فإن الثواب مرتبط بالمشقة، والحاجُّ الأشعث الأغبر له فضيلة كبيرة، ففى حديث جابر ـ رضى الله عنه ـ عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:(إن الله عز وجل يباهى بالحاج الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق، أشهدكم أنى قد غفرت لهم). (جزء من حديث أخرجه البيهقي، وغيره). وقد شرَّف الهع تعالى بيته، وعظَّمَه، وجعله مقصدًا لعبادته، وأن ما حوله حرمٌ له؛ تعظيمًا لشأنه، وتفخيمًا لأمره، وجعل عرفةَ كالميدان فى فنائه. إن كل أفعال الحج تذكرة للمذكر، وعبرة للمعتبر، ومن ذلك أنك ـ أخى الحاج ـ عندما تجمع الزاد لهذه الرحلة من المال، والطعام، والثياب، تذكر جمعَك للأعمال الصالحة التى هي زاد الآخرة، ولتحذر أن تُفسِدَ أعمالك التى تبتغي بها وجهَ الله بالرياء، والسمعة، فهذه الأعمال الباطلة الفاسدة لا تصحبك للآخرة، كالذى يجمع طعامًا رطبًا، لا حافظ له، فيفسد فى أول الطريق، فلا يستفيد منه، أو كالذي يذهب بنقود مزوَّرة، لا يقبلها أحد، وأنتَ إذا خرجتَ من مالك، وولدك، وبيتك المريح إلى البادية، والصحراء، تذكَّر خروجك من الدنيا محمولًا على الأعناق، متوجَهًا بكَ إلى القبر، حيث لا أنيسَ إلا عملُك الصالحُ، فإذا وَضَعْتَ هذا نُصبَ عينيك أقلعتَ عن الذنوب، وتركتَ المعاصي، ورددْتَ الحقوق إلى أهلها، وعدت، وأنت مرتاح القلب؛ لقبول حجك، ومضاعفة أجرك.
د. أحمد طلعت حامد سعد
كلية الآداب ـ جامعة بورسعيد بجمهورية مصر العربية [email protected]