الجمعة 23 مايو 2025 م - 25 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : انحدار الخطاب السياسي الصهيوني

الأربعاء - 21 مايو 2025 05:51 م

رأي الوطن

170

من المُفزع أنْ يقفَ مُجرِم الحرب لِيعلِّقَ على المجزرة الَّتي شاركَ في صناعتها، وكأنَّ الدِّماء لم تجفَّ بعد من يَدَيْه. تصريحات إيهود أولمرت، رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق، الَّتي قال فيها إنَّ ما يجري في غزَّة (يقترب من أنْ يكُونَ جريمة حرب) تعكسُ حالة من الفصام السِّياسي والأخلاقي الَّذي تُعاني مِنْه منظومة الاحتلال، وكأنَّ الآلاف الَّذين سقطوا ـ مُعْظمهم أطفال ونساء ـ لم يبلغوا بعد الحدَّ الكافي لتعريفِ الجريمة! أيُّ لُغةٍ وقحة هذه الَّتي تُبرِّر الإبادة الجماعيَّة بمصطلحات متردِّدة؟ كيف يتحوَّل إنكار المذبحة إلى خِطاب تحذيري خجول، يُموِّه الفعل الأصلي، ويُقزِّم فظاعته؟ والمُشْكلة هنا ليسَتْ في ما قاله أولمرت فحسب، بل في مشهدٍ أشملَ، يستدعى فيه مَن شاركوا في قتل الفلسطينيِّين سابقًا لِيلبَسوا رداء الأخلاق، ويتحدَّثوا عن عبثيَّة الحرب بعد أنْ تجاوزتْ جرائمها كُلَّ حدود المنطق والرَّحمة. إنَّ هذا الانحدار في الخِطاب السِّياسي الصُّهيوني يعكس ضياع أيِّ بوصلة إنسانيَّة، وتحوُّل العنف من وسيلة إلى عقيدة دائمة. ما يحدُث في غزَّة لم يَعُدْ يحتاج إلى أدلَّة أو اعترافات متأخِّرة من داخل المؤسَّسة الصهيونيَّة نَفْسِها، فالأرقام وَحْدَها تكفي لِتصفَ حجم الكارثة، لكنَّها لا تستطيع احتواء عُمق الألَم، وخلال قصفٍ فجٍّ لمنازلَ مَدَنيَّة في جباليا ودير البلح وخان يونس، استشهد أكثر من عشرين فلسطينيًّا، بَيْنَهم رُضَّع لم يكملوا شهورهم الأُولى، هذه ليسَتْ أحداثًا متفرِّقة، وإنَّما فصلٌ متواصلٌ من الإبادة المُمنهجة، وسياسة التَّدمير الكامل الَّتي يتَّبعُها جيش الاحتلال تُفصح عن نيَّة صريحة في مَحْوِ الحضور الفلسطيني الجغرافي والإنساني معًا. فالمشهد الماثل فيه البيوت تُهدَم على مَن فيها، العائلات تُدفَن تحت الأنقاض، والجَرْحَى لا يجدون دَمًا أو دواءً، ما يؤكِّد أنَّ ما يَحدُث ليس أخطاء حرب، بل منهجيَّة تدمير، والكارثة لا تتوقف عِندَ عدد الشُّهداء، بل تمتدُّ إلى معاناة المستشفيات المُنهكة، وانهيار المنظومة الطبيَّة، والعجز عن دفْنِ الضَّحايا أو حتَّى تحديد هُوِيَّاتهم.. ففي ظلِّ هذا الخراب، لا يبدو مستغربًا أنْ يتحدثَ قادة الاحتلال عن أهدافٍ غامضة، بَيْنَما الهدف الحقيقي يتحقَّق كُلَّ لحظة، وهو إذلالُ شَعبٍ ومَحْوُه من الحياة. وفيما يتحدَّث العالَم عن الحصار وكأنَّه مجرَّد إجراء عسكري، تُسجِّل الوقائع حقائق مُفزعة، فهناك أكثر من (300) حالة إجهاض، و(326) حالة وفاة بسبب الجوع وانعدام الدَّواء، أرقام تكشف أنَّ الاحتلال لم يَعُدْ يقتل بالقصف فقط، وإنَّما بالتَّجويع والحرمان والإذلال، وإلَّا كيف يُمكِن تفسير موت رُضَّع في الحاضنات بسبب انقِطاع الكهرباء؟ وكيف يُمكِن تبرير تركِ مَرْضَى الكُلَى يموتون تباعًا لأنَّ الغذاء غير متوافر؟ وأجهزة الغسيل باتَتْ غير متاحة؟ إنَّها ملامح واضحة لحربِ إبادةٍ تُدار عَبْرَ تقنيَّات القتل البطيء وليسَتْ ظروف حرب، والأُمم المُتَّحدة نَفْسُها حذَّرتْ من موت (14) ألفَ رضيعٍ خلال (48) ساعةً، في حال لم تصلِ المساعدات، ومع ذلك تُغلق المعابر، وتُمنع الشَّاحنات، وتُخزَّن المعونات خلْفَ الحواجز العسكريَّة.. لقَدْ تحوَّل القِطاع إلى سجنٍ ضخمٍ بلا نوافذ، بلا دواء، بلا خبز. وفي هذا المشهد، تبدو التَّصريحات الصُّهيونيَّة عن استمرار العمليَّات محاولةً يائسة لتجميلِ وَجْه لم يَعُدْ بالإمكان تجميلُه، بعد أنْ غرقَ في وَحْلِ الدِّماء والجُثث وسط صَمْتٍ دولي مريب. إنَّ ما يجري في غزَّة لا يُشبه الحروب، ولا يندرج تحت أيِّ مُسمَّى تقليدي، يُمكِن أنْ تتحملَه المفاهيم العسكريَّة أو السِّياسيَّة، نحن أمام نموذج فجٍّ وواضحٍ لعدوانٍ يستهدف الإنسان ككيانٍ، لا كمقاتلٍ أو طرفٍ في صراع، فهذا الَّذي يُسمَّى (عمليَّة عسكريَّة) هو في الحقيقة مجزرة مُمنهجة، تُدار تحت أعْيُنِ العالَم الَّذي اختار أنْ يدفنَ رأسَه في رمال الصَّمْتِ، أو يغسلَ يَدَيْه من الدَّم ببيانات جوفاء تدعو لضبطِ النَّفْس، وكأنَّ الأمْرَ خلاف على حدود، لا مجرَّة تطحن شَعبًا بأكمله، فالعدوان الصُّهيوني على غزَّة ليس لحظةً عارضة في سياق صراع طويل، بل هو تكثيفٌ عنيفٌ لفكرةٍ استعماريَّة تُعِيد إنتاج نَفْسِها عَبْرَ القتل والتَّجويع والتَّدمير، كُلُّ مَن يُنكر ذلك، أو يُبرِّره، أو يطلب مزيدًا من (الأدلَّة)، هو شريك في الجريمة، مهما ارتدى من ثياب الدبلوماسيَّة أو دعا للسَّلام، فهذه الحرب الشَّعواء يَجِبُ أنْ تُدانَ دُونَ أيِّ تحفُّظ، وأنْ يُسمَّى مرتكبوها بما هُمْ عَلَيْه فعلًا، قتلَة ومُجرِمون، لا قادة، فإنَّ السُّكوتَ على هذا الجحيم خيانة كُبرى لِقِيَم العدالة والكرامة الإنسانيَّة، وكُلُّ كلمة تُقال اليوم لن تكُونَ كافيةً، ما لم تتحولْ إلى موقف، وكُلُّ موقف يَجِبُ أنْ يُترجمَ إلى ضغطٍ، وكُلُّ ضغطٍ يَجِبُ أنْ يُفضيَ إلى وقفِ هذا العبَث الدَّموي فَورًا، دُونَ شُروط، ودُونَ تواطؤ، ودُونَ ذرائع تُرتَق بها ثقوب الضَّمير العالَمي المُهترئ.