الجمعة 23 مايو 2025 م - 25 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

من التصنيع إلى الوهم

من التصنيع إلى الوهم
الأربعاء - 21 مايو 2025 05:40 م

د.أحمد مصطفى أحمد

20

تركِّز الإدارة الأميركيَّة الجديدة للرَّئيس دونالد ترامب على قِطاع العملات المشفرة والذَّكاء الاصطناعي بشكلٍ كبير جدًّا، رُبَّما أكثر من الاهتمام بالقِطاعات التَّقليديَّة في الاقتصاد من التَّصنيع إلى الخدمات الماليَّة. صحيح أنَّ هذا تَوَجُّه عالَمي ليس قاصرًا على الولايات المُتَّحدة، إلَّا أنَّ الاهتمام الأميركي أكبر بكثير لاعتبارات عدَّة. مع تراجع القِطاعات التَّقليديَّة في الاقتصاد العالَمي من زراعة وصناعة بنهاية القرن الماضي أصبح المحرِّك الأكبر للنُّمو هو قِطاع المال والخدمات الماليَّة وزادتْ رقعة الاستثمارات في الأسواق الماليَّة وتطوُّرت مشتقَّات استثماريَّة كثيرة غير الأسْهُم والسَّندات. وشهدتِ «الرَّأسماليَّة الماليَّة» أُولى الانتكاسات بنهاية ثمانينيَّات القرن الماضي فيما عُرف بأزمة انهيار «النُّمور الآسيويَّة». مع الانتقال ما بَيْنَ القرنَيْنِ كانتْ شركات الإنترنت وتكنولوجيا الاتصال تكاثرتْ وتضخمتْ حتَّى شهد العالَم أزمة ما سُمِّي انفجار فقَّاعة «دوت كوم». واستمرَّ قِطاع التكنولوجيا في التَّطوُّر والابتكار، كذللك أسواق المال الَّتي شهدت نموًّا مطَّردًا بدخول ما سُمُّوا «المستثمِرِين الأفراد»، أي من الجمهور العامِّ غير الصَّناديق والمستثمِرِين المؤسَّساتيِّين. أسْهُم في التَّطوُّر المتوازي للتكنولوجيا وأسواق المال مزج ما بَيْنَهما، هو التَّعبير الأوسع للتكنولوجيا الماليَّة، بحيثُ أصبح التَّداول في الأسواق إلكترونيًّا وصارتْ مرتبطة ببعضها. كما أنَّ تطوير الهواتف الذَّكيَّة المُتَّصلة بالإنترنت وتطبيقات التَّعامل في الأسواق زاد من قاعدة الاستهلاك لكُلٍّ من التكنولوجيا والأسواق الماليَّة. ومع ابتكار أنماط استهلاك جديدة انتفختِ الفقَّاعة الَّتي انفجرتْ في الأزمة الماليَّة العالَميَّة قَبل نهاية العَقد الأوَّل من هذا القرن نتيجة تضخُّم قِيَم مشتقَّات استثماريَّة وهميَّة ارتبطتْ بسندات الرُّهون العقاريَّة في الولايات المُتَّحدة وغيرها. بعدها ظهرتِ العملات المشفَّرة لاستخدام الجمهور العامِّ على الإنترنت بعدما كانتْ محصورة في تعاملات المُجرِمِين والعصابات الخطرة على الإنترنت الخفي (الأسود). وسادتْ موجة تهليل لأنَّ تلك المشفَّرات ستكُونُ رافعةَ النُّمو العالَمي بتسيُّدها للنِّظام المالي، لكنَّها على مدَى عَقدٍ ونِصف الآن لم تخرجْ عن كونها «أُصولًا رقميَّة للمضاربات شديدة المخاطر» تشهد ارتفاعًا وهبوطًا في قِيمتها بتذبذب واسع النِّطاق نتيجة المضاربات عَلَيْها. كُلُّ ذلك ساعد على مزيدٍ من السُّخونة الَّتي ترفع من حجمِ الفقَّاعة الماليَّة في العالَم. فبالتَّوازي مع كُلِّ ذلك، يرتفع حجم الدَّيْن العالَمي بشكلٍ غير مسبوق. قَبل خفوت وهج المشفَّرات والأُصول الرَّقميَّة الَّتي تراكم ما تسمَّى «ثروة ورقيَّة» (أي أموال بِدُونِ أيِّ سندٍ مادِّي حقيقي) طوّر قِطاع التكنولوجيا «الذَّكاء الاصطناعي». ورغم أنَّه تطوير برامجي لأدوات بحث أونلاين موجودة من قَبل، إلَّا أنَّ الإيهام التَّسويقي الَّذي صاحبَه جعلَه كأنَّه «مُنقذ الاقتصاد العالَمي» ما جذَب إلى صناعته مئات مليارات الدولارات. مع تراجع القِطاعات التَّقليديَّة في الولايات المُتَّحدة، أكبر اقتصاد في العالَم، وفشل ريادتها لموجة المشفَّرات (نظرًا لطبيعة تلك العملات المشفَّرة وعدم وجود أيِّ قواعد لها أو مرجعيَّة مركزيَّة) تسعَى أميركا لأنْ تَقُودَ موجة الذَّكاء الاصطناعي كقِطاع يُمكِن أن يتسيَّدَ النِّظام العالَمي فتحتفظ بالرّيادة كقوَّة عظمى وحيدة. إنَّما في ذلك الوقت، كانتْ قوى أخرى في العالَم تَسير في مشوار تطوير الذَّكاء الاصطناعي بوتيرة مماثلة، وأحيانًا أكثر تَقدُّمًا، مِثل الصِّين. وهذا في الواقع هو قلب الصِّراع الحالي بَيْنَ واشنطن وبكين رغم أنَّ الصِّين لا تبدو وأنَّها تريد احتلال مكانة أميركا، فما زال اقتصادها وإن كان ثاني أكبر اقتصاد في العالَم لكنَّه ليس بمرونة وصلابة الاقتصاد الأميركي. ثمَّ إنَّ هناك منافِسِين آخرين لا يقلُّون أهميَّة في أوروبا ومناطق أخرى من آسيا يسعَوْنَ للاستحواذ على قدرٍ مُهمٍّ من قِطاع الذَّكاء الاصطناعي العالَمي. وبعض هؤلاء المنافِسِين، وإن لم يطوّروا قِطاعًا ماليًّا وخدمات ماليَّة مِثل الولايات المُتَّحدة، إلَّا أنَّ لدَيْهم من قِطاعات الاقتصاد التَّقليدي ما يُمثِّل سندًا قويًّا لإمكاناتهم وقدراتهم. وفي هذا السِّياق تتفوق الصِّين، الَّتي استمرَّتْ في تطوير التَّصنيع بشكلٍ رُبَّما يفوق الجميع. لا يُمكِن توقُّع متى يخبو وهج الذَّكاء الاصطناعي، لكن بالقياس على فَورات أخرى في العقود الأخيرة فإنَّ ذلك ليس ببعيد. وإن كانتْ مساحة التَّطوير في هذا المجال التكنولوجي تظلُّ واسعة بما يعني أنَّ هذا القِطاع مستمرٌّ كمُكوِّن مُهمٍّ في الاقتصاد العالَمي. لكنَّ مسألة أن يتسيَّدَ ويَقُودَ ويَقُومَ بِدَوْر «المنقذ» على حساب القِطاعات التَّقليديَّة فهي محلُّ شكٍّ كبير. منذُ نهاية القرن الماضي والعالَم يتَّجه بسرعة نَحْوَ «اقتصاد الوَهْمِ» إنْ جاز التَّعبير على حساب الاقتصاد الحقيقي؛ أي المادِّي الملموس الَّذي ينمو بالجهد والقِيمة المضافة من عمل البَشَر وإبداعهم وابتكارهم فيه. ثمَّ إنَّ هناك مُشْكلة أخرى وهي أنَّ النُّظُم الماليَّة والنَّقديَّة والاقتصاديَّة بشكلٍ عامٍّ لم تتطوَّرْ بالسُّرعة الَّتي تطوَّرتْ بها قِطاعات الخيال والوَهْمِ تلك. لذا، نجد أنَّ هناك تريليونات الدولارات من الثَّروة العالَميَّة لا وجود حقيقيًّا لها إلَّا على الورق أو ضِمْن أكواد برامجيَّة على حواسيب (كمبيوترات). والإمعان في مسار الاقتصاد الوَهْمِي هذا يُفاقم من مُشْكلة هذه الثَّروة غير الحقيقيَّة بما يُمكِن أن يفجرَ النِّظام كُلَّه في أيِّ لحظة ويَقُودَ إلى انهيار غير مسبوق، لا يُشبِه الأزمة الماليَّة العالَميَّة الأخيرة ولا الأزمات الأخرى الَّتي سبَقَتْها. وساعَتْها لن ينفعَ الذَّكاء الاصطناعي العالَم في تلافي الأضرار الكارثيَّة.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]