في مدينة طاقة، حاضرة ولاية العراقة، وحاضنة المآذن، وكتاتيب القرآن، ومواطن الذكر، ومآثر التاريخ، تنبض المدينة بالكرم، وتتنسّم الجود، ويخفق قلبها بالصدق والأمانة والعمل الخيري. في هذه المدينة النابضة بالقيم، نشأت (أُم عبدالله)، ونشأ معها الحلم.
كانت تحمل في أعماقها رسالة أمٍّ ترى في تربية أبنائها مشروعًا لصناعة الإنسان. لم تكن خريجة كليَّة تربية، لكنها طبّقت بفطرتها وعملها كل نظريات التربية المثالية والواقعية والبراغماتية في آنٍ واحد.
منذ أن رزقها الله بأربع بنات ثم بولدين، بدأت رحلتها التربوية برؤية شاملة متكاملة، وجعلت البداية مع القرآن الكريم.
فكل مولود جديد في بيتها، كان أول ما يلامس سمعه هو كلام الله، وأول ما يرتوي به هو لبنها الطيب الحلال. بدأت مع بناتها بتعليمهن ما يستوعبن من آيات القرآن، مقرونًا بالتجويد والتلاوة، وحرصت على متابعة تعليمهن النظامي، حتى تخرّج بعضهن من الجامعة، ولا تزال الأخريات على الطريق، إحداهن تستعد هذا العام للانتهاء من الدبلوم العام استعدادًا للالتحاق بالجامعة.
جعلت القرآن أنيس بيتها، يُذهب عنهم وحشة الحياة، ويكون نورًا يضيء لهم دروبها، علَّمت أبناءها أن يربطوا كل مواقفهم الحياتية بتعاليم القرآن، وكرَّست جهدها لتعليم ولديها (عبدالله وأحمد) الأبجدية في ظل آثار جائحة كورونا، فأتت بمن يعلمهما وجهًا لوجه حتى أتقنا القراءة والكتابة في بداية دراستهما المدرسية.
وكما علَّمت بناتها الطهي والعادات والقِيَم الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع التعليم، جعلت من مطبخها معهدًا للتدريب، تؤمن أن الطهي ذوق وقِيَم، ويعبِّر عن الحب والإبداع والانضباط. فكان المطبخ مساحة لبناء الشخصية، وغرس النظام والالتزام، ما انعكس على تفوق بناتها وجعل الاجتهاد عادةً راسخة في مسيرتهن التعليمية.
وحين رزقها الله بعبدالله ثم أحمد، نسجت لهما مشروعًا تربويًّا متكاملًا يمزج بين الروح والعقل والجسد:
علمتهما القرآن مع القراءة والكتابة، والرسم والخط، ثم الحقتهما ببرامج تدريبية للسباحة، وفنون الدفاع عن النفس مثل: الكاراتيه، التايكواندو، والجودو، إضافة إلى كرة القدم.
ومع التزامهما بهذه البرامج، برزت شخصيتاهما المستقلتان، ونمتا مع المواظبة والاجتهاد، في ظل خط النور الذي لم ينقطع، حيث علّمتهما التجويد والحفظ، وألحقتهما بدورات في الحساب الذهني، والرسم، وحفظ الأشعار.
وكانت (أُم عبدالله) حريصة على أن لا تقتلع رياح الحداثة أبناءها من جذورهم، فعلَّمت عبدالله وأحمد لف العمامة العُمانية، ورقصة البرعة، وحتى رعي الغنم وحلبها وتذوق التراث، ليحملا من الماضي أجمل ما فيه.
نجحت (أُم عبدالله) في جهودها التربوية من خلال التزامها بقانون تربوي راسخ): قبل صلاة المغرب، يجب أن يكون الجميع في البيت؛ فهذه لحظة السكينة، وموعد القرآن لا يُؤجل ولا يُعطّل).
ولم تنسَ أن تغرس في أبنائها وبناتها شعيرة قيام الليل، فربَّتهم على السجود في الأسحار، على مناجاة الله في الظلمة، وعلى رفع الأكف خوفًا وطمعًا.
واليوم، ومع اقتراب الإجازة الصيفية، أعدّت برنامجًا متكاملًا يجمع بين المتعة والتطوير الذاتي واكتساب المهارات وحفظ الوقت؛ برنامج متوازن يروي أرواحهم، وينمِّي عقولهم، ويملأ فراغهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة. هذه ليست حكاية مثالية؛ بل حكاية واقعية من إنجاز أُم أدركت دور الأمومة في صناعة الحياة.
إنجازها لا يُقاس بالشهادات، بل بالقِيَم التي ترسخت، وبالقلوب التي تنوَّرت، وبجيل يُشرق في ظلمة الحياة كقنديلٍ من نور طاقة.
د.أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية