غالبيَّة النَّاس والمواطنين البسطاء يعرفون ويتوقعون بأنَّ الإتيكيت هو طريقة أكْلِ الطَّعام (الطَّعام بالسكِّين والملعقة والشَّوكة)، بَيْنَما مفهوم وتعريف الإتيكيت بأنَّه الذَّوق العالي والرَّفيع والسُّلوك المُهذَّب والمؤدَّب للشَّخص أمام الجميع مهما كان المنصِب أو الوظيفة.
في الشَّركات الخاصَّة والمختلطة في بريطانيا وأغلَب دوَل أوروبا عِندَ تعيين مدير أو شخص لمنصبٍ لقيادة الخطِّ الثَّاني أو الثَّالث يُطالَب بأن يُقدِّمَ ما يُثبت حصوله على شهادات في المهارات الدبلوماسيَّة، وخصوصًا مفاهيم البروتوكول والإتيكيت؛ لأنَّه ليس من المعقول أن يُعيَّنَ بهذا المنصب وهو لا يحمل أيَّ سِمات المجاملة الرَّاقية والكلمة الرَّقيقة ذات المشاعر الطيِّبة لجميع شرائح المُجتمع؛ لأنَّ الشَّخص المغرور بشهادته وصفاته سوف يُسبِّب خسائر لهذه الشَّركات بسبب (الأنا) الَّذي يتملكها، وبالتَّالي ترَى من الصَّعب قيادة دفَّة إدارة بتلك الشَّركة، ولِكَونِ يتعامل مع الجميع من أنَّه الأفضل والأرقَى والبقيَّة هُمُ الأدنى. ويقول المَثل الشَّعبي: (نافخ روحه) وبالأحرى هو مثل البالون الَّذي لا يملك أدنى مُقوِّمات الشَّخص المثالي والقيادي في إدارة منصبه ومسؤوليَّته؛ بسبب جهله لفنِّ المجاملة واختيار الكلمات والجُمل الطيِّبة، حيثُ قال رسولنا الكريم:(الكلمة الطيِّبة صدقة)، وكذلك قال رسول الله (صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم): (إنَّ من موجبات المغفرة بذل السَّلام وحُسن الكلام)، ومن هذيْنِ الحديثَيْنِ النَّبويَّيْنِ بدأتِ المدارس الدبلوماسيَّة المُتخصِّصة بفنِّ الحديث والمجاملة تضع مُقوِّمات وسِمات التَّعامل الطيِّب مع الجميع؛ لأنَّ الشَّخص المسؤول هو الَّذي يملك قلوب ومشاعر واحترام وأحاسيس جميع موظفيه؛ لأنَّه يملك التَّواضع ومحبَّة الجميع بعيدًا عن حُب تملُّك الكرسي والمنصب.
تؤكِّد المدارس الدبلوماسيَّة المُتخصِّصة في بريطانيا أنَّ فنَّ المجاملة وإدارة الحديث، سواء في الإتيكيت الحكومي أو الاجتماعي، لا يعتمد كُليًّا على الشَّهادات والتَّخصُّصات الجامعيَّة الحاصل عَلَيْها الشَّخص، وإنَّما فنُّ المجاملة يستند إلى مفاهيم البروتوكول والإتيكيت الاجتماعي، فنحن عِندَما نتكلَّم مع علماء ورِجال الدِّين يختلف اختلافًا كُليًّا أُسلوب المجاملة وإدارة الحديث مع أصدقائنا أو أقاربنا أو حتَّى مع شرائح المُجتمع الأخرى، سواء الأكاديميون أو الباحثون عن عمل، كما توضِّح المدارس المُتخصِّصة بفنِّ الدبلوماسيَّة بأنَّ المهارة في استخدام نبرة الصَّوت ولُغة الجسد وكاريزما هي من أهمِّ مُقوِّمات فنِّ المجاملة، وهي تختلف اختلافًا جوهريًّا بَيْنَ العنصر النّسوي، وكذلك الرِّجالي، سواء كبار الشَّخصيات من الوفود الرَّسميَّة أو الاجتماعيَّة أو الضيوف الحاضرة من مختلف المناصب والوظائف في المناسبات والفعاليَّات ذات طابع وطني، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ العادات والتَّقاليد والدِّين والمذاهب تؤدِّي دَوْرًا كبيرًا بفنِّ المجاملة وإدارة الحديث ونَوْع المناسبة، ووقتها ومكانها، ومستوى الحضور بهذه المناسبة أو تلك.
الدبلوماسيَّة ومهارة إدارة الحديث وفنُّ المجاملة يبحر في عِلم النَّفْس الاجتماعي ويُحدِّد لنا أجندة وسِمات خاصَّة للتَّعامل مع كُلِّ شخص وبسياقات حرفيَّة عالية المستوى، معتمدًا على البروتوكول والإتيكيت الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، أُسلوب المجاملة والكلام والاطمئنان لزيارة مريض بالمستشفى، فعلى الزَّائر أن يتحلَّى بهدوء الأعصاب ولُغة الجسد ومستوى نبرة الصَّوت وبشاشة الابتسامة لِيُعينَ المريض على التَّعافي من مرضِه، وليس الكلام عن العمليَّة وسلبيَّاتها أو عن سلبيَّات ونواقص المستشفى أو قلَّة خبرة الأطباء أو عدم كفاءة الأدوية، وهذه المجاملة والأُسلوب سوف تؤذي نَفْسيَّة المريض وتؤخِّر من شفائه، بالإضافة إلى أنَّه سوف يبدأ بالتَّفكير بالانتقال إلى مستشفى آخر؛ بسبب مجاملة وأُسلوب ورأي الزَّائر، ممَّا يضع الجميع في مأزق كبير.
يُعرف فنُّ المجاملة بأنَّه هو إحدى الطُّرق الرَّسميَّة والاجتماعيَّة الَّتي تسعَى إلى إنشاء أو بَلْوَرة علاقات جديدة وجيِّدة مع الآخرين. فنُّ المجاملة يعتمد على عدَّة مُقوِّمات مِنْها: التَّعامل برفق وحكمة واحترام، إظهار الاهتمام والتَّقدير، الابتعاد عن النَّقد والتَّجريح، الابتعاد عن المبالغة والتكبُّر وحُب الأنا، اختيار بدقَّة الكلمات الهادئة والرَّقيقة واللَّطيفة، لُغة الجسد في غاية الأهميَّة والَّتي تعكس حُسن النيَّة والاحترام المتبادل، عدم الابتسامة والاستهزاء بالمقابل بسبب رأي مُعيَّن، وهناك أنواع كثيرة لفنِّ المجاملة في (مناسبات حكوميَّة، مناسبات اجتماعيَّة، مناسبات دِينيَّة).
علماء اللُّغة يؤكِّدونَ على عدَّة نقاط جوهريَّة في إدارة الحديث، ولِكَيْ تكُونَ المجاملة نموذجيَّة تليق بكاريزما القائد أو المرأة القياديَّة ومِنْها؛ فنُّ الاستماع، عِلم الكلمة، التَّأني بالإجابة والرَّدِّ، الابتعاد عن الأنانيَّة وتقاطع وقطْع الكلام دُونَ إذن، تجنُّب الاصطدام بالأفكار، الهدوء في التَّعامل مع وجهات النَّظر المختلفة، الذَّكاء العاطفي وسرعة البديهة.
ختامًا، إنَّ فنَّ المجاملة وإدارة الحديث يُعَدَّانِ من أهمِّ المهارات الدبلوماسيَّة في الإتيكيت الحكومي؛ لأنَّهما يرتقيان بكاريزما الشَّخص ويكُونُ قائدًا رسميًّا واجتماعيًّا مؤثرًا إيجابيًّا في وسطه وبيئته الَّتي يعمل فيها، وقدوة يُقتدى بشخصيَّته من جميع جوانبه، وهي رسائل إيجابيَّة في غاية الرُّقي نابعة من الأخلاق العربيَّة الأصيلة.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت