الثلاثاء 20 مايو 2025 م - 22 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : مشاريع الهيدروجين ومستقبل الطاقة

الاثنين - 19 مايو 2025 07:10 م

رأي الوطن

10

مَن يتابع التَّحوُّلات الَّتي تشهدها سلطنة عُمان خلال السَّنوات الأخيرة سيُدرك أنَّنا أمام دَولة لا تنتظر التَّغيير لكنْ تصنعُه بوعيٍ شديد. ففي خضم عالَم يتقلب اقتصاديًّا ومناخيًّا لا يُمكِن للدوَل الَّتي تُراهن على النِّفط وَحْدَه أنْ تَضْمنَ موقعًا في المستقبل، وهنا يظهر الرِّهان العُماني على الهيدروجين الأخضر كخيار استراتيجي تمَّ التَّخطيط له ضِمن رؤية واضحة الأركان، تستند إلى رؤية «عُمان 2040» الوطنيَّة، وترتكز تلك الرُّؤية على أدوات تنظيميَّة وتنفيذيَّة حقيقيَّة مِثل شركة «هايدروم»، والفَرق بَيْنَ مَن يأمل ومَن يُخطِّط يتجلَّى في تفاصيل هذا المشروع، الَّذي لم يطرحْ كمبادرة أو تجربة، بل كأرضٍ، ومراحلَ، وشركاء دوليِّين، وإطار تشريعي مُوَحَّد. إنَّ الطَّاقة في سلطنة عُمان لم تَعُدْ قِطاعًا منعزلًا عن باقي الاقتصاد، وإنَّما غدَتْ حقلًا مركزيًّا لإعادة إنتاج النُّمو والتَّشغيل والتَّموضع الجيوسياسي. وعِندَما توظّف مشاريع الهيدروجين في محافظتَي الوسطى وظفار، فإنَّ الأمْرَ يتجاوز فكرة تنويع الاقتصاد، لِيصلَ إلى تأسيس بنية سياديَّة قادرة على تصدير الكفاءة والابتكار، لا فقط المواد الخام، ما سيَعُودُ على الاقتصاد الوطني بالنَّفع.

ولعلَّ التَّعمُّق في تفاصيل المرحلتَيْنِ الثَّانية والثَّالثة من مشروع (أكمي) للهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء، يوضِّح ـ بما لا يدع مجالًا للشَّك ـ ملامح هذا التَّحوُّل الاستراتيجي الَّذي تخوضه السَّلطنة بثقة. فالمشروع الممتدُّ على مساحة (80) كيلومترًا مربَّعًا لن يكُونَ مجرَّد امتداد رقمي للمرحلة الأُولى، بل يُمثِّل نقلةً نَوْعيَّة في حجم الإنتاج واستدامته، وسيتمُّ إنتاج نَحْوِ (71) ألفَ طنٍّ من الهيدروجين الأخضر و(400) ألفِ طنٍّ من الأمونيا لكُلِّ مرحلة هو انعكاس لحجمِ الطُّموح، لكنَّه أيضًا تعبير عن ثقة المستثمِرِين والشُّركاء الدّوليِّين في البنية المؤسَّسيَّة العُمانيَّة، بالإضافة إلى اتفاقيَّة الشِّراء المُوَقَّعة مع شركة (يارا) النرويجيَّة، والَّتي أضفَتْ على المشروع مصداقيَّة تجاريَّة وسُوقيَّة، ما يؤكِّد أنَّ المنتَج العُماني باتَ يدخل في عُقودٍ حقيقيَّة وليس مجرَّد خطط مُعلنة، والأهمُّ مِن كُلِّ ذلك أنَّ هذا المشروع يخضع لإطار تنظيمي واضح تتولَّاه «هايدروم»، ما يحمي الاستثمارات من التَّقلُّبات، ويوفِّر بيئة استثماريَّة شفَّافة، ويَضْمنُ أن لا يتحوَّلَ هذا الحلم الأخضر إلى مغامرة عشوائيَّة.

في موازاة هذا النُّمو في حجمِ المشاريع الإنتاجيَّة، تأتي الاتفاقيَّة المُوَقَّعة بَيْنَ شركة أوكيو لشبكات الغاز وشركة «فلوكسيس» البلجيكيَّة لِتُضيفَ بُعدًا لوجستيًّا واستراتيجيًّا بالغ الأهميَّة، فالهيدروجين الأخضر يحتاج إلى بنية أساسيَّة مُتخصِّصة تربط بَيْنَ مراكز الإنتاج والأسواق العالَميَّة؛ لأنَّه ليس منتَجًا عاديًّا يُمكِن تخزينُه أو شحنُه كباقي السِّلع. وتأتي الاتفاقيَّة الَّتي تشمل التَّعاون في تطوير شبكة نقلٍ للهيدروجين داخل سلطنة عُمان وربطها لاحقًا بأوروبا؛ لِتعكسَ إدراكًا عُمانيًّا حقيقيًّا لهذا التَّحدِّي. وهنا تبرز أهميَّة الشَّراكة مع «فلوكسيس»، ليس فقط لقدرتها التقنيَّة، بل لِدَوْرها الفعَّال في السُّوق الأوروبيَّة، ما يمنحُ المشروع منفذًا مباشرًا نَحْوَ أسواق تحتاج إلى الطَّاقة المُتجدِّدة أكثر من أيِّ وقتٍ مَضَى، والاستفادة من حصَّة «فلوكسيس» في أوكيو تجعل من الشَّراكة التزامًا ماليًّا واستراتيجيًّا طويل الأمد، وتؤكِّد أنَّ عُمان تتحركُ ضِمْنَ شبكة تحالفات مدروسة، لا ضِمْنَ مجازفات مؤقَّتة.

إذا نظرنا للصُّورة الشَّاملة فسنجد أنَّ سلطنة عُمان لا تخوض سباق الهيدروجين الأخضر لِتلحقَ بالرَّكب فقط، بل لِتضعَ نَفْسَها في طليعة صانعِيه. فتسع اتفاقيَّات كُبرى، واستثمارات تتجاوز (50) مليار دولار، وسعة إنتاجيَّة تصلُ إلى (1.5) مليون طن سنويًّا، كُلُّها مؤشِّرات على مشروع يراهن على الإنجاز وليس على التجربة.. كما أنَّه مشروع هُوِيَّة اقتصاديَّة جديدة تَبْنيها الدَّولة برؤية واضحة، وليس مشروع طاقة فقط. باختصار، إنَّ ما يَحدُث في الدُّقم والوسطى وظفار هو إعادة توزيع لمراكز الثّقل داخل الاقتصاد الوطني، وإعادة تعريف لِدَوْر السَّلطنة في الاقتصاد العالَمي.. ومع وجود تنظيمات مَرِنة، وبنية أساسيَّة تُبْنَى بشراكات دوليَّة، وموقع استراتيجي يربط بَيْنَ آسيا وأوروبا، فإنَّ السَّلطنة تُهيئ نَفْسَها لِتكُونَ مركزًا رئيسًا للهيدروجين النَّظيف. ومن هنا فإنَّ ما يجري هو رسالة واضحة بأنَّ عُمان لن تقفَ على الهامش في معركة المستقبل، بل ستكُونُ من الَّذين يرسمونه.