الاثنين 19 مايو 2025 م - 21 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : المتاحف ودورها فـي التنمية وتنويع الاقتصاد

الأحد - 18 مايو 2025 06:35 م

رأي الوطن

20


باتَ واضحًا أنَّ الاقتصاد الحديث لا يُمكِن أنْ يظلَّ حبيس المفاهيم التَّقليديَّة للإنتاج والتَّصدير، بل لا بُدَّ له من التَّوَسُّع نَحْوَ قِطاعات جديدة تمتلك طابعًا مستدامًا وعائدًا طويل الأمد، وصناعة السِّياحة واحدة من أبرز هذه القِطاعات الحيويَّة الَّتي تُعوِّل عَلَيْها الدوَل كثيرًا في طريقها نَحْو النُّمو، خصوصًا سياحة التُّراث، حيثُ لا يقتصر هذا النَّوع من السِّياحة على استقطاب الزوَّار فقط، بل أضحى له أبعاد أخرى تعمل على إنتاج فرص عمل، وتعزيز البنية الأساسيَّة الثَّقافيَّة، ما يضخُّ الحيويَّة في الأسواق المحليَّة، خصوصًا وأنَّ السِّياحة أضحتِ الآن جزءًا من استراتيجيَّة التَّنويع الاقتصادي، وهنا تكمن أهميَّة أنواع السِّياحة المختلفة، حيثُ تطوَّر مفهوم السِّياحة من نشاط خدمي، إلى صناعة مرتبطة مع قِطاعات أخرى، صناعة تعمل على تحويل المعالِم الثَّقافيَّة، والطَّبيعيَّة، والتَّاريخيَّة إلى أدوات فعَّالة لِتَحقيقِ النُّمو، وهو ما أدركَتْه سلطنة عُمان باكرًا هذا المعنى، ووضعتْ استراتيجيَّة لا تنظر للسَّائح باعتباره مستهلِكًا فقط، وإنَّما كفاعل اقتصادي يُمكِن أنْ يُسهمَ وجوده في تحريك قِطاعات كاملة مِثل النَّقل، والتَّجزئة، والحِرف التَّقليديَّة، بل وحتَّى الاستثمار العقاري والخدمي، وهنا تبرز أهميَّة تطوير السِّياحة النَّوْعيَّة الَّتي تُقدِّم للزَّائر تجربة معرفيَّة وثقافيَّة متكاملة، وليسَتْ مجرَّد نزهة موسميَّة عابرة.

من بَيْنِ أبرز مسارات السِّياحة الاقتصاديَّة المستدامة، يلمع نجم السِّياحة المتحفيَّة، وهي الَّتي تتعامل مع المتحف بوصفه فضاءً حيًّا للثَّقافة والمعرفة؛ لِتتَخطَّى النَّظرة القديمة الَّتي كانتْ تراه مستودعًا للآثار.. ومن هذا المنطلق يأتي المؤتمر الدّولي (المتاحف ودَوْرها في التَّنمية السِّياحيَّة)، الَّذي احتضنَه متحف «عُمان عَبْرَ الزَّمان»، بمشاركة نخبة من الأكاديميِّين والخبراء من أكثر من عشرين دَولةً، مسلطًا الضَّوء على أهميَّة هذا المنتج السِّياحي، وهي خطوة كُبرى لجمع خبراء المجال السِّياحي، والعمل كمنصَّة فكريَّة تطبيقيَّة لطرحِ أفكارٍ قابلة للتَّحقُّق على أرض الواقع، كما حمَل المؤتمر رؤية سلطنة عُمان المدروسة، الَّتي تسعَى إلى جعل المتاحف أذرعًا استراتيجيَّة في خريطة التَّنمية.. فالمتحف، كما جاء في مداخلات الخبراء، لم يَعُدْ ذلك المكان الهادئ المغلق، بل أصبحَ مسرحًا للحوار الحضاري، ومركزًا تفاعليًا للتَّعلُّم، ووسيطًا ثقافيًّا يُعِيدُ ربط الإنسان بجذوره وهُوِيَّته، وفي ذات الوقت، يفتح أبوابًا غير متوقَّعة للدَّخل والاستثمار.

لم يكُنِ اختيار (متحف عُمان عَبْرَ الزَّمان) لاستضافة هذا المؤتمر جاء بمحض المصادفة، فهو بحدِّ ذاته نموذج على الرُّؤية العُمانيَّة المتقدِّمة تجاه العمل المتحفي، فهذا المتحف لا يُقدِّم لزوَّاره مجرَّد قِطع أثريَّة أو لوحات شروح، بل يمنحهم تجربة زمنيَّة متكاملة، تأخذهم في رحلة تفاعليَّة تبدأ من حضارات ما قَبل التَّاريخ، وتمرُّ بمسارات التِّجارة البحريَّة، وتصل إلى ملامح الدَّولة الحديثة. ومن هنا تأتي الفكرة الجوهريَّة الَّتي تُلخِّص الرُّؤية العُمانيَّة، وهي أنَّ السِّياحة المتحفيَّة ليسَتْ تجربة بصريَّة، بل رحلة فكريَّة وروحيَّة، تُحفِّز الزَّائر على طرح الأسئلة، والبحث عن إجابات، والشُّعور بالانتماء إلى ذاكرة بَشَريَّة مشتركة، وهذا النَّوع من السِّياحة، لا يُمكِن حصرُه في مبيعات التَّذاكر، وإنَّما في الأثَر الَّذي يتركه في وعي الزَّائر، وفي القِيمة الَّتي يضيفها إلى الصِّناعات المجاورة، من فنون وحِرف ومنتَجات تراثيَّة. وإذا كانتِ الدوَل تبحثُ عن قِيمة مضافة محليَّة، فإنَّ المتاحف تُقدِّم هذه القِيمة على طبَقٍ من ذَهَبٍ، دُونَ الحاجة إلى استخراجٍ أو تلويثٍ أو استنزاف.

اللافت أيضًا أنَّ المؤتمر لم يكتفِ بالتَّنظير، بل طرح محاور عمليَّة تمسُّ صُلب التَّحدِّيات والفرص، وأبرز تلك المحاور أهميَّة إشراك المدارس والجامعات في تعزيز الوعي المتحفي، إلى دَوْر الذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات الرَّقميَّة في تحويل العروض إلى تجارب تفاعليَّة نابضة، كما تمَّ تسليط الضَّوء على ضرورة التَّنسيق بَيْنَ المتاحف ووكالات السَّفر، وتطوير استراتيجيَّات ترويج مشتركة تضع المتحف في قلبِ الحملة التَّسويقيَّة السِّياحيَّة، وسلطنة عُمان بهذا التَّوَجُّه تخلق هُوِيَّة جديدة لسياحتها، لا تَقُومُ على البحر أو الصَّحراء فحسب، بل على الثَّقافة العميقة، والحكاية التَّاريخيَّة الَّتي تُروى بأُسلوب عصري، وبهذا تكُونُ السَّلطنة قد قطعتْ خطوةً ذكيَّة نَحْوَ تحقيق تنمية اقتصاديَّة لا تقتصر على استقدام الزَّائر، بل تحويله إلى شريك حقيقي في بناء تجربة وطنيَّة أصيلة، قابلة للتَّصدير ومستعدَّة لِتنافسَ على خريطة السِّياحة العالَميَّة بمحتواها الحضاري لا بمظاهرها فقط، خصوصًا مع ما تملكه سلطنة عُمان من تاريخ تليد ممتدٍّ لآلاف السِّنين.