في ظلِّ معطيات كونيَّة تعيش حالة التناقضات والتباينات، باتَتْ تفرض على التَّعليم الوفاء بالتزاماته الكثيرة نَحْوَ المواطن، وتستدعي امتلاكه الممكنات والأدوات الَّتي تنقل الهُوِيَّة إلى استراتيجيَّات عمل، وبرامج استراتيجيَّة وطنيَّة تؤسِّس لبناء شخصيَّة المواطن ومهاراته، فالأصل في التَّعليم أن يشكِّلَ شخصيَّة المواطن ويبني هُوِيَّته ويؤسِّس فيه مسارات القوَّة والتَّجديد والتَّغيير الموجّه، نظرًا لما يمتلكه من قوَّة التَّأثير وقدرة على الاحتواء وإمكانيَّة توفير البدائل الَّتي تَبْني شخصيَّة المواطن، ومع علاقة التَّكامل والتَّمازج بَيْنَ التَّعليم والهُوِيَّة لكونهما وجهين لعملة واحدة وهي المحافظة على درجة التوازنات النفسيَّة والفكريَّة والروحيَّة والاتصاليَّة والتفاعليَّة في حياة المواطن، إلَّا أنَّ لكُلٍّ مِنْهما شخصيَّته الاعتباريَّة وموقعه وحضوره في السلَّم الاجتماعي والنَّوع البَشَري وفي كيانات الوطن ومنظوماته، فلا يعني حصول التَّعليم على مستوى أقلّ جودة نفوق الهُوِيَّة، كما أنَّه ما يحصل من ممارسات وسُلوكيَّات باتَتْ تتناقض مع الخصوصيَّة والهُوِيَّة والسَّمْت العُماني لا يعني بالضرورة غياب دَوْر التَّعليم في القيام بمسؤوليَّاته في ضمان تحقيق التزام يمشي على الأرض؛ ومع ذلك تبقى الهُوِيَّة الوطنيَّة هي المعيار الَّذي يُمكِن خلاله قياس حجم الإنجاز المتحقق لدى المواطن في قدرته على استيعاب المعطيات والتَّفكير خارج صندوق التكرارات وترك بصمة حضور نوعيَّة له في مختلف المجالات الَّتي يجد نَفْسه فيها مبدعًا ومنتجًا ومنافسًا، وتصبح الهُوِيَّة الاختبار الحقيقي لنواتج هذا التَّعليم والمصب الَّذي تبرز فيه كفاءة هذا الإنجاز وقدرته على الاحتواء والاستمراريَّة الَّتي تضع التَّعليم أمام حالة جديدة ومرتكزات ومؤشِّرات عمل متجدِّدة عَلَيْه أن يعملَ بكُلِّ مهنيَّة على تحقيقها، كما أنَّ عَلَيْه التزام مسارات القوَّة والكفاءة والجودة والمهنيَّة في آليَّاته وأدواته كونه المنطلق الأساس مع مؤسَّسات أخرى كالأُسرة والإعلام والتنشئة الاجتماعيَّة والمؤسَّسات الأمنيَّة والتشريعيَّة والضبطيَّة في تشكيل هُوِيَّة المواطن وإخراجها بطريقة راقية مهذبة قادرة على التكيُّف مع المعطيات والاستجابة للتوقُّعات والجاهزيَّة في إدارة محتوى العمليَّات اليوميَّة، وكُلَّما كان هذا الإعداد متناغمًا متوافقًا متساميًا فوق كُلِّ المؤثِّرات السلبيَّة قادرًا على نقل المواطن من مرحلة التَّلقين والتَّرديد والتَّقليد إلى مرحلة الوعي والتَّفكير والشَّواهد والأدلَّة والتَّحليل والنَّقد والتَّفكير خارج الصندوق كُلَّما أسْهَم ذلك في قدرة المواطن على نقل المواطنة إلى مسارات التطبيق فتتحول من مجرَّد كلمات وتعبيرات لمفاهيم الولاء والانتماء والمسؤوليَّة إلى ممارسة فعليَّة تبرز في مساحات المشاركة المُجتمعيَّة والمبادرات الجادَّة وتعميق المسؤوليَّة الاجتماعيَّة وتعظيم العمل التطوُّعي والانتقال إلى ميادين العمل والمنافسة والإنتاجيَّة والفعل.
على أنَّ ممَّا ينبغي التَّأكيد عَلَيْه أنَّ جودة التَّعليم هي المحك في ذلك كُلِّه، فالتَّعليم عالي الجودة هو الي يمتلك القوَّة في التَّأثير والتَّغيير والاحتواء وإعادة هندسة السُلوك والدَّافع الَّذي يرفع سقف التَّوَقُّعات لدى المتعلِّم عاليًا في حجم الممكنات الفكريَّة والنفسيَّة ونوعيَّة المحتوى وكفاءة التطبيقات العمليَّة الَّتي توجّه بوصلة المسار وتصنع مِنْه مواطنًا مسؤولًا وفردًا منتجًا، وهو أمْر يضع التَّعليم أمام مسؤوليَّة عدم التَّنازل عن الثَّوابت الَّتي يَجِبُ أن يحرصَ عَلَيْها في أداء مهمته أو إيصال رسالته للمُجتمع، وهي رسالة الوعي وبناء القدرات وإنتاج القدوات والانتقال بالمُجتمع إلى مرحلة متقدمة من الشَّراكة والمسؤوليَّة والعمل والإنتاج والاعتماد على النَّفْس وترك بصمة حضور وتأثير في الواقع، ما يؤكد أنَّ عَلَيْه أن يرفعَ من سقف التَّوَقُّعات المطلوبة مِنْه في المُجتمع أو يكسر هاجس القلق الَّتي باتَتْ تظهر في المنتج التَّعليمي أو مساحة الثِّقة الَّتي يؤمن بها المواطن نَحْوَ التَّعليم في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل، واتِّساع فجوة التَّعليم وسُوق العمل، بل إنَّ عَلَيْه أن يؤسِّسَ للمبادئ والقِيَم والموجّهات والخصوصيَّة موقعها في ذات الفرد حتَّى في وقت الأزمات والظُّروف فيرفع من سقف عطاء المواطن وقدرته على تغيير المسار، فيعيد صياغة خطابه ومناهجه وأساليبه وأدواته في تعامل المواطن مع الأزمات، ويبرز مهنيَّة أكبر ترقى بأخلاقيَّات الأزمة كمحدِّدات للتَّعامل معها، ومنطلق لعلاجها، ومدخل لقراءتها في صورة راقية، تعتمد على حكمة التصرُّف، والثِّقة في الذَّات وتعدُّد الخيارات، وفتح مسارات التَّكامل والبحث عن حلول متوازنة، وتأكيد الاحترافيَّة في الرسالة الإعلاميَّة الموجهة القائمة على مبادئ الحق والعدل، والشفافيَّة والموضوعيَّة والصدق، ومِنْهجيَّة التخفيف من حدة الأزمة، وتأصيل ثقافة الإيجابيَّة والتفاؤل وحسِّ المواطنة والالتزام بالتَّعليميات وقواعد العمل وأنظمة التَّعامل مع الحالة، وتوجيه النَّاس إلى الزام مِنْهج التريُّث والحكمة في أخذ المعلومات من مصادرها الصَّحيحة، وفتح منصَّات أكبر للحوار وطرح البدائلـ والعمل المشترك وحل النزاع وحُسن توظيف الموارد والإمكانات، بما يَضْمن ضبط سُلوك التهوُّر والاندفاع وسرعة الأحكام والإشاعات، عَبْرَ توظيف مناهجه ومساقاته التدريسيَّة وطرائق التَّعليم والتعلُّم، وما تمتلكه بيئاته من فرص تطبيق هذه المبادئ وحشد التأييد لها، ودَوْر المعنيِّين والقائمين عَلَيْه والممارسين له في تعزيز أخلاقيَّات الأزمات في سُلوك الأجيال وتعاملهم مع الحالة.
عَلَيْه، فإنَّ تجسيد هذه الصورة النموذج في علاقة التَّكامل بَيْنَ التَّعليم والهُوِيَّة تتَّجه نَحْوَ وضع المواطن أمام قراءة واعية لتاريخ وطنه وإبراز دَوْر عُمان في مختلف المراحل التنمويَّة والفلسفة الثقافيَّة والحضاريَّة الَّتي انطلقت مِنْها، مقرونةً بالتَّحوُّل الحاصل اليوم والمنهجيَّة المعتمدة فيها، وأنَّها تأتي بشكلٍ يتناغم مع معطيات الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل بروح واعية ومنهجيَّة راقية، تضع التَّعليم أمام مسؤوليَّة بناء التَّوازن في سياساته وأطروحاته وبرامج عمله لتتناغمَ مع معادلة العصرنة الَّتي تبقي على جميل الماضي حاضرًا في نَفْس المواطن وقِيَمه ومساحات الشعور الَّتي تتولد لدَيْه حَوْلَ الوطن، وفي الوقت نَفْسه يصنع من حاضرة محطَّات وقوف تستلهم معاني الشغف بالأفضل والطموح بالزيادة مع إبقاء خيط الودِّ واحترام المنجز وتقدير الإنجاز ممدودًا، لِيستطيعَ خلال ذلك كُلِّه أن يستكشفَ موقعه والدلالات الَّتي يحملها ودَوْره الَّذي ينبغي أن يمارسَه في سبيل إبقاء مسارات التَّكامل والتَّناغم بَيْنَ أبعاد الدَّائرة الوطنيَّة حاضرًا، وهي دائرة ليسَتْ مغلقة بقدر ما تحمل المرونة والتطوير وقابليَّتها للتجديد وأخذها بأساليب العصر وقراءتها لمستجدات العمل الوطني، هذا التَّكامل في نقل صورة العمل الوطني والتقارب في السياسات الوطنيَّة وفي طريقة إيصال المنجز ووجود اتفاق وحوار يضمن لهذه الجهود المبذولة تحولها من حالة وقتيَّة إلى استدامة التطوير والمراجعة وإنتاج الحلول للوصول إلى الغايات الكبرى الَّتي تَضْمن لهذا الجهد التطبيق الحصيف الَّذي يعيد هندسة العمليَّات الدَّاخليَّة في حياة أبناء الوطن حَوْلَ ذواتهم ومواطنتهم وهُوِيَّتهم وقناعاتهم بصورة تستوعب كُلَّ المتغيِّرات وتتفاعل مع كل المحطَّات وتقرأ في مسار الفرص المتحققة محطَّات لإعادة التَّأمل والتَّفكير في بوصلة العمل القادمة.
أخيرًا، يبقى مشهد التَّكامل في الواقع، وحضور التَّناغم في الإجراءات في كُلِّ الممارسات المؤسسيَّة ذات الصِّلة ببناء نموذج وطني منافس للهُوِيَّة الوطنيَّة، تزيد فيه مساحات الشَّراكة والتَّكامل بَيْنَ المؤسَّسات، كما تنمو فيه إنتاجيَّة بيئة العمل وفرص الاستدامة والمهنيَّة والاحترافيَّة، ويلمس في توجُّهات المؤسَّسات وقراراتها أو ما تتخذه من خطط أو تنجزه من سياسات وتشريعات أو تقرُّه من برامج روح التَّغيير، في احتواء المواطن وتقدير الكفاءة وتقديم القدوات والنماذج، وترقية الوعي الجمعي، المؤصل بأصالة السَّمْت العُماني ورُقي الذَّوق والإخلاص والحسِّ الوطني، عِندَها سيكُونُ للهُوِيَّة الوطنيَّة حضور أقوى وفعل أعمق، وحرص أكبر على جعل المواطنة وعَبْرَ مساحات الولاء والانتماء والمسؤوليَّة والمشاركة حاضرة في قراءة هذا المنجز، وهنا يبرز دَوْر التَّعليم في تأكيد هذا النَّهج وإبراز الشَّواهد والأدلَّة في عُمق هذا التَّناغم الوطني ورصده للفجوات ووضع المواطن في صورة العمل المنجز بكُلِّ وضوح وشفافيَّة، عِندَها سيكُونُ لهذا التَّكامل دَوْره في صناعة الفارق وتحقيق الاستثنائيَّة في النتائج، وأن يؤسِّسَ لبناء شراكة أعمق للتَّعليم في كُلِّ مسارات العمل الوطني الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة وغيرها؛ باعتباره من أوكلت عَلَيْه عمليَّة البناء الفكري وإنتاج الشخصيَّة العُمانيَّة الواعية والحاضرة في كُلِّ المجالات، كما يتَّجه إلى الجودة والموثوقيَّة والابتكاريَّة والريادة والفرادة في مناهجه التَّعليميَّة وأدواته وآليَّات عمله وأنشطته وبرامجه، وممارساته الميدانيَّة لِيقدِّمَ للقِطاعات التنمويَّة الاقتصاديَّة مِنْها والاجتماعيَّة نماذج حيَّة وسواعد بناء أمينة وقويَّة، خُلقًا ومهارةً ووعيًا وسماحةً، وإخلاصًا ونزاهةً.
د.رجب بن علي العويسي