الاثنين 19 مايو 2025 م - 21 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

«التفكير الكارثي .. الانقراض وقيمة التنوع من داروين إلى الأنثروبوسين»

«التفكير الكارثي .. الانقراض وقيمة التنوع من داروين إلى الأنثروبوسين»
السبت - 17 مايو 2025 02:32 م

سعود بن علي الحارثي

20

في عصر القراءة الإلكترونيَّة، والإعلانات المستمرة الَّتي تطالعنا بها الأخبار اليوميَّة، حَوْلَ قرارات إغلاق كبريات الصحف والدَّوْريات الورقيَّة على مستوى العالَم بسبب ما تحقِّقه من خسائر، ومؤشِّرات انحسار مستويات القراءة وشراء الكتب في عالَمنا العربي خصوصًا، فإنَّني دائمًا ما أتساءل ـ قلقًا متوترًا ـ وأنا أقف أمام منافذ بيع الصحف والكتب والمنشورات في المكتبات أو محطَّات الوقود، مستوضحًا عن العدد الجديد من (سلسلة عالَم المعرفة)، هل سيأتي اليوم الَّذي سيبلغني فيه البائع بأنَّ السلسلة قد توقفت؟ بسبب التَّراجع الحادِّ في قراءة أعدادها، وما تتطلبه ترجمتها وطباعتها ونشرها من موازنة ضخمة؟ وأشعُر بالارتياح عِندَما أحصل على نسختي، ويتجدَّد أملي بتواصل السلسلة في الصُّدور وفاء من القائمين على المشروع لقرَّائها بالاستمرار مهما كلَّفهم ذلك من جهد ومال وأثمانٍ غالية. فعالَم المعرفة، إشعاع تنويري تقدُّمي غاياته كبيرة وأهدافه نبيلة تستهدف تقدُّم العالَم العربي ونهضته، وسوف يواصل مشواره بإذن الله تعالى. العدد «٥٠٤»، الصَّادر في مارس ٢٠٢٣م، يتناول موضوع المخاطر الَّتي تحيق بالبَشَريَّة، وما يتسبب به النَّشاط الإنساني التَّصنيعي والتَّسليحي والتَّقدُّم العلمي المتسارع، من تلوُّث وفتكٍ وتآكُل وانقراض وكوارث جيولوجيَّة أصابتْ أعمدة وهياكل وأساسات وأنظمة الكون الَّذي يحتضننا في هوائه وتنوُّع كائناته ومياهه وتربته وأراضيه الزراعيَّة... والَّتي يتوقع لفيف من العلماء والباحثين والأكاديميِّين المتخصِّصين بأن يكُونَ لها عواقب وخيمة وبوادر «قلق حقيقي من أنَّ الجنس البَشَري نَفْسه رُبَّما يوشك على السَّير في طريق الديناصورات، وهي ضحايا آخر انقراض جماعي وقع منذُ حوالي ٦٥ سنَة». ينبِّه «ديفيد سيبكوسكي»، مؤلِّف الكِتاب، إلى «أنَّ الأنشطة البَشَريَّة تسبِّب حاليًّا انقراضًا جماعيًّا سادسًا، الَّذي قد يكُونُ أكبر من الكوارث الجيولوجيَّة الخمس السَّابقة الَّتي غيَّرت الحياة بشكلٍ جذري على الأرض». بدءًا من عصور انقراض المخلوقات العملاقة، مرورًا بالحروب والصِّراعات المدمِّرة الَّتي خاضها الإنسان، وليس انتهاءً بالطَّفرة الهائلة الَّتي شهدتها صناعات الأسلحة، وارتباطها بالعصر الاستعماري الغربي البغيض الَّذي تسبَّب بانقراض أعراق وثقافات ولهجات وتقاليد بَشَريَّة كثيرة، بدعاوى عنصريَّة ووهْمِ السِّيادة والعِرق النَّقي والأصلح والأبقى والمتحضر، مقابل المنحطِّ والمتدنِّي الَّذي لا فرصة له في البقاء... ناقش الكِتاب العديد من تلكم المحاور ذات الصِّلة بالملف الَّذي يتناوله، وعرج إلى تفنيد وتحليل مجموعة من النظريَّات الخاصَّة بدَوْرات الحياة وازدهار الحضارات الإنسانيَّة، وتطوُّر الكائنات الحيَّة والأصناف الحيوانيَّة والأعراق البَشَريَّة وانقراض بعضها، والفرضيَّات المتخيَّلة عن «التَّطوُّر والنُّشوء»، و»نهاية العالَم»، الَّتي برعتْ في تصويرها وعرضها النصوص الأدبيَّة وأفلام الخيال العلمي خصوصًا... تبرز أهميَّة الكِتاب في تعميق وعي القارئ حَوْلَ أهميَّة «العلاقة بَيْنَ البَشَر وبقيَّة العالَم الطَّبيعي»، و»تقدير التنوُّع كمَوردٍ ثمين». لقد أثار استخدام القنبلة النوويَّة كسلاح مدمِّر للحياة ولمختلف أنواع الكائنات، في الحرب العالَميَّة الثَّانية، المخاوف من تهديدات جديدة تُنذر بكوارث قد تَقُودُ في المستقبل إلى الانقراض البَشَري، تتسبب فيه «الإبادة النوويَّة والكارثة البيئيَّة»، يستدعي التَّأهب وإعلان حالة الطوارئ القصوى من أجْلِ «حماية كامل النظام الإيكولوجي العالَمي المتنوع». بالرَّغم من أنَّ العِلم أثبتَ حقيقة انقراض عددٍ من الكائنات والمخلوقات العملاقة مثل الديناصورات، إلَّا أنَّ الكثير من الأسرار والأسئلة الحيويَّة المرتبطة بها لا تزال تتأرجح في فضاء الافتراضات والتَّوَقُّعات غير المحسومة، مثل، أسباب الانقراض الَّذي حلَّ ببعض الحيوانات، وما إذا كانتْ مخلوقات أخرى حلَّتْ محلَّها، وانعكاساتها الحقيقيَّة على الكون...؟ «بحلول أواخر القرن الثامن عشر، أدرك هوتون وآخرون أنَّ تغيُّرات جيولوجيَّة عميقة قد حدَثتْ في ماضي الأرض؛ فقد توغَّلتِ الجبال في قشرة الأرض، ورفعتِ القارَّات وأُلقيتْ في البحر، وقذفتِ البراكين كميَّات هائلة من الصخور المنصهرة، والْتَوَتْ طبقات قشرة الأرض وانثنتْ بعيدًا عن مواقعها الأصليَّة. واعتمادًا على سرعة حدوثها، رُبَّما كانتْ لمثل هذه التغيُّرات تأثيرات عميقة على الكائنات الحيَّة..». بَيْنَ الافتراضات الَّتي تتحدث عن «موجات تسونامي هائلة اجتاحتِ القارات دَوْريًّا وقضتْ على مئات الأنواع في لحظة..»، والأخرى الَّتي تعتقد بأنَّ الانقراض حدَث كنتيجة طبيعيَّة «للشيخوخة العِرقيَّة»، أو لأنَّ «التغيُّر المناخي البطيء»، هو الَّذي تسبَّب في حالات انقراض متدرجة... ما زالتْ قضيَّة الحسم بعيدة عن عصرنا وتتطلب الكثير من الوقت والدراسات والنتائج العلميَّة اليقظة قَبل أن يصلَ العلماء إلى البتِّ والقرار الفصل. في ثلاثينيَّات القرن التاسع عشر، بدأتْ بعض الأقلام تكتب والدراسات تصدر والأصوات تسمع في الإعلام الأوروبي، وفي عدد من البرلمانات، الَّتي تربط بَيْنَ الاستعمار الأوروبي، وانقراض أو نقص عدد كبير من الأعراق والجماعات السكانيَّة الأصليِّة، في المستعمرات الَّتي تقع في إفريقيا وأستراليا، في إعلان صريح وفاضح للجرائم والمذابح الَّتي ارتكبت، حيثُ باتَ من المؤكد أنَّ «انقراض عِرق السكَّان الأصليِّين لا يُمكِن إلَّا أن يتركَ وصمة عار لا تُمحى على سمعة الحكومة البريطانيَّة»، ففي تلك المرحلة التاريخيَّة المليئة بالخطابات والأفكار والتنظيرات والدعوات العنصريَّة الأوروبيَّة، كان «التَّوَسُّع البريطاني والأوروبي والأميركي مدعومًا باعتقاد صريح بأنَّه من المبرر إخضاع وحتَّى القضاء على ما عُرف بالقبائل الهمجيَّة لأنَّ مثل هذه الأعراق محكوم عَلَيْها بالفناء على أيِّ حال وفقًا للمنطق الراسخ للبيولوجيا...». هذا التصور الراسخ في فِكر المستعمر الأوروبي جعل من استقرار «الأوروبيِّين ووصولهم» إلى أيِّ منطقة، إيذانًا بـ»إبادة قبائل السكَّان الأصليِّين». أمَّا في الوقت الراهن الَّذي نعيشه، فيشار إلى التَّقدُّم التكنولوجي المتسارع والثورات العلميَّة المتلاحقة على أنَّها تُسهم في عمليَّة الانقراض كحلقة أخيرة للسلسلة الَّتي يتناولها الكِتاب، وجاء التَّحذير على لسان عدد من العلماء من أنَّ «التَّقدُّم التكنولوجي البَشَري قد أطلق قوى أدَّتْ إلى تدميرنا المتسارع للموائل الطبيعيَّة. تُباد العشرات، ورُبَّما المئات، من الأنواع كُلَّ عام، وهي أنواع احتاجت إلى مئات أو آلاف أو ملايين السنين لِكَيْ تتطورَ. ولا يُمكِن استبدالها». على ضوء اجتهادات ونقاشات العلماء ونظريَّاتهم حَوْلَ «التَّفكير الكارثي»، ونتائج دراساتهم وإنجازاتهم العلميَّة، يقدِّم «ديفيد سيبكوسكي»، تصوُّرات عديدة للمستقبل في محورَي «الانقراض»، و»نهاية العالَم»، مستندا على تزايد التهديدات الَّتي تُنذر بمستقبل كارثي، للبَشَريَّة، والأصناف والكائنات الحيَّة الأخرى، تدعمها ملفات التنافس في صناعات السلاح المدمِّر والمتطوِّر، والتَّقدُّم التكنولوجي، واتِّساع رقعة الحروب وارتفاع وتيرة خطابات الكراهيَّة وظاهرة العنف، وانهيار منظومة القِيَم وارتفاع درجات الحرارة، ومنتجات ثورات الذَّكاء الاصطناعي... وسيظلُّ العِلم متأرجحًا بَيْنَ الأمل في القدرة على التغلُّب على هذه التهديدات بـ»البراعة البَشَريَّة والابتكارات التكنولوجيَّة...»، والنظرة القاتمة الَّتي ترى أنَّ البَشَريَّة أمام «اللَّحظة النهائيَّة، الَّتي تُمثِّل تتويجًا لغطرستنا الجماعيَّة؛ ممَّا سيسبِّب انقلابًا كبيرًا في هيمنتنا على الكوكب، إن لم يكُنِ انقراض جنسنا البَشَري».. متطلِّعين ومتشبِّثين على الدَّوام بنظريَّات الأمل الَّتي سوف تتغلب بمشيئة الله تعالى ورحمته.

سعود بن علي الحارثي

[email protected]