السبت 17 مايو 2025 م - 19 ذو القعدة 1446 هـ

رأي الوطن : المؤسسات الاقتصادية الكبرى ودورها الاجتماعي

الأربعاء - 14 مايو 2025 06:35 م

رأي الوطن

40

في خضمِّ التَّحوُّلات الَّتي يشهدها العالَم على مستوى التَّنمية المستدامة، تبرز المؤسَّسات الاقتصاديَّة الكبرى فاعلًا رئيسًا لا يُمكِن تجاهل دَوْره الاجتماعي، حيثُ لم تَعُدِ الشَّركات العملاقة اليوم مجرَّد وحدات إنتاجيَّة تسعَى إلى تحقيق أقصى ربح ممكن، بل أصبحتْ شريكًا مباشرًا في صياغة معالِم المُجتمع وتوجيه دفَّة تطوُّره، لذا فإنَّ المسؤوليَّة الاجتماعيَّة غدَتْ التزامًا أخلاقيًّا واستراتيجيًّا تُبنَى عَلَيْه سُمعة المؤسَّسة ومكانتها في الوعي العامِّ، وليسَتْ شعارًا تسويقيًّا أو بندًا هامشيًّا في تقارير الأداء.

ولعلَّ ما قامتْ به شركة تنمية نفط عُمان من توقيع (14) اتفاقيَّة لِتَمويلِ مشروعاتٍ مُجتمعيَّة بقِيمةٍ تتجاوز (4.4) مليون ريال عُماني، خيرُ دليلٍ ومثالٌ حيٌّ على هذا التَّحوُّل. والأهمُّ من التَّمويلِ ذاته هو نَوْعيَّة المشروعات الَّتي شملَتْها الاتفاقيَّات، والَّتي تُلامس احتياجات حيويَّة مِثل التَّعليم، والصحَّة، والمياه، والبنية الأساسيَّة، ما يكشفُ عن رؤية شموليَّة تَعدُّ المَواطِن محور العمليَّة التَّنمويَّة، لا مجرَّد مستفيد عابرٍ مِنْها، ويؤكِّد أنَّ تعظيم القِيمة المحليَّة المضافة يبدأ من فَهْمٍ متجذِّر لطبيعةِ الاحتياج المُجتمعي.

حين نستعرض ما خصَّصته شركة تنمية نفط عُمان لقِطاع التَّعليم، تتكشف لنَا فلسفة مؤسَّسيَّة تُدرك أنَّ بناء الإنسان هو الاستثمار الأكثر جدوى على المدَى البعيد، فالشَّركة لم تكتفِ بدعمِ مِنَح دراسيَّة لأبناء منطقة الامتياز، بل ذهبتْ إلى ما هو أبعد من ذلك، حين موَّلتْ وحدة التقنيَّات النَّاشئة بجامعة السُّلطان قابوس، لِتكُونَ منصَّة أكاديميَّة قادرة على خدمة أكثر من عشرين ألفَ طالبٍ سنويًّا في تخصُّصاتٍ مرتبطة بمستقبل الاقتصاد الرَّقمي، والذَّكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والبلوكشين، والأمن السّيبراني، حيثُ لم تَعُدْ تلك التَّخصُّصات ترفًا معرفيًّا، وإنَّما أدوات بقاء وتفوُّق في سُوق عالَمي شديد التَّنافس، كذلك، فإنَّ دعم برامج مِثل (معرفة) و(تعزيز) و(معسكر القرية الهندسيَّة) يعكس تَوَجُّهًا نَحْوَ ترسيخ ثقافة الابتكار بَيْنَ الطَّلبة، وإعدادهم ذهنيًّا ونَفْسيًّا لسُوقِ العمل بآفاقِه المتغيِّرة. وهذه البرامج لا تصبُّ في صالح الطَّلبة فحسب، بل تصنع بيئة تعليميَّة مُجتمعيَّة قابلة لإنتاج قادة رأي وفِكر وتقنيَّة، فالاستثمار في العقول لا يمنح الشَّركة فقط مستقبلًا مستقرًّا في منطقة امتيازها، بل يزرع لبنات نهضة متوازنة تمتدُّ آثارها لِعُقود.

وعلى صعيد القِطاع الصحِّي تُقدِّم الشَّركة نموذجًا متقدِّمًا لِفَهمِ متطلَّبات العدالة الصِّحيَّة خارج مراكز المُدُن، فحين تموِّل توسعة قِسم الطَّوارئ في مستشفى عبري، وتُشارك في إنشاء مركز صحِّي جديد في ظفار، فإنَّها لا تُقدِّم دعمًا إسعافيًّا مؤقتًا، بل تُعِيدُ تشكيل الخريطة الصِّحيَّة في تلك المناطق؛ إيمانًا مِنْها بأنَّ الخدمات الصِّحيَّة ليسَتْ رفاهيَّة، وإنَّما حاجة وجوديَّة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بجودة الحياة وإنتاجيَّة الإنسان، والأمر ذاته ينطبق على دعم الشَّركة لمحطَّةِ تحلية المياه في الجازر، حيثُ يُعَدُّ توفير المياه النَّظيفة أحَد التَّحدِّيات البيئيَّة والتَّنمويَّة الكُبرى في سلطنة عُمان، خصوصًا في المناطق البعيدة، ومن خلال هذا النَّوْع من التَّدخُّلات، تتجاوز المؤسَّسة دَوْر الرَّاعي إلى دَوْر المهندس المُجتمعي الَّذي يقرأ التَّحدِّيات ويبتكر الحلول من قلبه، لا من خارجه، كما أنَّ دعم مشاريع تنمويَّة مِثل مصنع جبن الإبل في رخيوت، وبرامج تدريبيَّة تستهدف سائقي الإسعاف، تكشف عن فَهْمٍ دقيقٍ للرَّوابط بَيْنَ الاقتصاد المحلِّي والتَّمكين المِهني، بحيثُ يتمُّ خلْقُ وظائف وفرص دُونَ الحاجة لإعادة اختراع العجَلة، بل من خلال تطوير منظومة قائمة وقابلة للنُّمو.

إنَّ ما تفعلُه شركة تنمية نفط عُمان ـ رغم ضخامته ـ لا يُمكِن أنْ يُفهمَ في إطاره الصَّحيح إلَّا حين نربطُه بمبدأ تعظيم الأثَر المحلِّي المُضاف.. فهذا المفهوم الَّذي باتَ أحَد أعمدة الفكر التَّنموي الحديث، يَقُومُ على فكرة أنَّ الثَّروات الطَّبيعيَّة أو الأنشطة الاقتصاديَّة يَجِبُ أنْ تتركَ وراءها إرثًا تنمويًّا طويل الأمد؛ وذلك انطلاقًا من فكرة أنَّ كُلَّ ريالٍ يُنفق يَجِبُ أنْ يُعِيدَ إنتاج نَفْسه من خلال خدمة مُجتمعيَّة، أو بنية أساسيَّة، أو فرصة تعليم، أو منتج محلِّي قابِلٍ للتَّصدير، وحين تُوَقِّع شركةٌ ما أكثر من عشر اتفاقيَّات في مجالات مُتعدِّدة في وقتٍ واحد، فهي لا تُمارس توزيعًا عشوائيًّا للمسؤوليَّة، بل تؤسِّس لحالةٍ من التَّداخُل المُنظَّم بَيْنَ الاقتصاد والمُجتمع والثَّقافة، تنسجم مع رؤية «عُمان 2040»، وتصبُّ في قنوات التَّنمية المستدامة الَّتي حدَّدتها أجندة الأُمم المُتَّحدة لعام 2030، وهنا يُصبح من المشروع أنْ نتحدثَ عن نموذج وطني يُحتذى به، يُعِيدُ تعريف العلاقة بَيْنَ رأس المال العامِّ والمصلحة المُجتمعيَّة في آنٍ واحد.