الثلاثاء 13 مايو 2025 م - 15 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

عُمان تحيي ملائكة الشفاء

عُمان تحيي ملائكة الشفاء
الاثنين - 12 مايو 2025 12:15 م

د. يوسف بن علي الملَّا

10


حين يتزاحم الضَّجيج من حَوْلِنا، وتضيع في زحام التقنيَّة أصوات الإنسان الموجوع، يبقى التَّمريض هو النَّبض الَّذي لا يهدأ، والصَّوت الَّذي يسمع في الصَّمت، واليَدَ الَّتي لا تكتفي بإعطاء الدَّواء، بل تمتدُّ بحُنوٍّ، وتربتُ على الأمل. حقيقةً إنَّه ليس فقط علمًا يدرَّس أو مهارة تكتسب، بل حالة وجوديَّة من العطاء الهادئ، والعمل الصَّبور، والتَّفاعل العميق مع تفاصيل الألم. وفي سلطنة عُمان، لا يُمكِن لذكرِ التَّمريض أن يمرَّ عابرًا، فهو ليس قِطاعًا صحيًّا فحسب، بل روح ممتدَّة في جسد النِّظام الصحِّي الوطني، وحارس يقظ لتوازنات الشِّفاء والرِّعاية.

وهنا في الثَّاني عشر من مايو من كُلِّ عام، تُترجم سلطنة عُمان هذا الإدراك النَّبيل إلى فِعل مؤسَّسي ومُجتمعي، فتحتفي بيوم التَّمريض العالَمي لا كحدَثٍ سنوي، بل كمناسبة لتقدير متجدِّد لِدَوْر أثبتَ أنَّه لا يقلُّ شأنًا عن أيِّ خطِّ دفاع في الحرب على المرض، والموت، والانهيار. فالتَّمريض في عُمان تحوَّل من مهنة تقنيَّة إلى ركيزة علاجيَّة، ومن دَوْر تنفيذي إلى كيان سريري مستقلٍّ ومؤثِّر، تدعمه حكومة مولانا جلالة السُّلطان ـ حفظه الله ورعاه ـ، وتحتفي به المؤسَّسات، ويزدان به المُجتمع.

كيف لا؟ والبيانات الرَّسميَّة الصَّادرة عن وزارة الصحَّة العُمانيَّة لعام ٢٠٢٣ أشارت إلى أنَّ إجمالي الكوادر التَّمريضيَّة تجاوز اثنين وعشرين ألف ممرِّض وممرِّضة، يُمثِّل العُمانيون مِنْهم ما نسبته اثنان وستون بالمئة وأكثر، ويعملون في المستشفيات المرجعيَّة، والمراكز التَّخصُّصيَّة، والمُجمعَّات الصحيَّة، والمستشفيات الميدانيَّة. وعَلَيْه فقَدْ تمَّ تطوير المسارات المهنيَّة للممرِّضِين عَبْرَ فتح برامج التَّخصُّص الدَّقيق، والشَّهادات المهنيَّة المعتمدة محليًّا وعالَميًّا لِيغدوَ التَّمريض أحَد أسرع القِطاعات الصحيَّة نُموًّا من حيثُ الكفاءة والجودة والاعتماد المؤسَّسي.

من ناحية أخرى وعلى صعيد الأداء، كشفتْ تقارير تحسين الجودة السريريَّة أنَّ إشراك التَّمريض في قرارات الرِّعاية قلَّص من زمن الإقامة في وحدات العناية المركَّزة بنسبة خمسة عشر بالمئة، وأسْهَم في خفض نِسَب العدوى المكتسبة في المستشفيات بنسبة تسعة عشر بالمئة خلال السَّنوات الثَّلاث الأخيرة. ورُبَّما هذا التَّحوُّل الإيجابي لم يأتِ مصادفة، بل هو نتيجة لسياسات صحيَّة واضحة تبنَّتْ مفهوم التَّمريض الشَّامل، والَّذي ـ إن صحَّ لي القول ـ يدمج بَيْنَ الرِّعاية التَّمريضيَّة التَّقليديَّة، والتَّمكين المهني، والتَّواصُل العلاجي الإنساني.

ولأنَّ سلطنة عُمان لا تكتفي بالرِّعاية داخل أسوار المستشفى، فقَدْ توسَّع نطاق الممارسة التَّمريضيَّة المُجتمعيَّة لِيشملَ برامج مِثل الممرِّض الزَّائر، والتَّمريض المدرسي، والَّتي بشكلٍ وبآخر عزَّزتِ المؤشِّرات الوقائيَّة، وخفَّفتِ العبء عن المَرافق العلاجيَّة بنسبةٍ تراكميَّة بلغتْ سبعة وعشرين بالمئة حسب تقارير المديريَّة العامَّة للرِّعاية الأوَّليَّة. وفي مشهد أكثر دقَّة، كانتِ الكوادر التَّمريضيَّة في أثناء جائحة «كوفيد-١٩» الحائط الصُّلب الَّذي امتصَّ الصَّدمة، وحافظَ على تماسُك النِّظام الصحِّي رغم الضَّغط الهائل، إذ أدارتِ الفِرق التَّمريضيَّة عمليَّات الفرز والتقصِّي الوبائي، وأسْهَمتْ في تشغيل أكثر من خمسين مركزًا صحيًّا متنقلًا، مع تقديم الرِّعاية لأكثر من ثلاثمئة وخمسين ألف حالة مشتبه بها في فترة لم تتجاوزْ عشرة أشْهُر!

وهكذا وفي صميم الواقع الصحِّي، حين تنطفئ أجهزة المراقبة، ويغادر الأطبَّاء بعد المعالجة، تبقى الممرِّضة قرب المريض. تراقب نبضه، وتنصُت له، بل وتلاحظ أدقَّ تغيُّر في لَوْنه، وصوته، وعَيْنَيْه. ولعلَّ تلك الملاحظة الَّتي قد تنقذ حياة، وذلك الحضور الَّذي يكمل دَوْر الأدوية والبروتوكولات. فالتَّمريض ليس مهنة تقيس النَّجاح بعدد الإبر أو دقَّة القياسات، بل هو عِلم يمزج بَيْنَ الملاحظة السَّريريَّة الحادَّة، والحسِّ الإنساني العميق.

وقد قيل: العِلم ينقذ الجسد، ولكن الرَّحمة تُحيي الرُّوح! وإن كان هذا القول صحيحًا، فإنَّني أستطيع القول بأنَّ التَّمريض هو ذلك الجسر المتين بَيْنَ المعرفة والرَّحمة، بَيْنَ تلك الأرقام والحياة، ويقينًا بَيْنَ الألم والأمل. والآن وفي مُجتمع متطوِّر كعُمان، ندرك جميعًا كيف أنَّ التَّمريض أضحى أكثر من دَوْر... أصبح هُوِيَّة، ومصدر فخر وطني.

ختامًا، لا تكفينا العبارات ولا تكفينا التَّهاني مهما ازدانتْ بالكلمات، بل يكفينا أن نقولَ: أنتُم النَّبض الَّذي يُعِيدنا للحياة حين تتكسَّر فينا القوى، وأنتُم الضَّوء في ممرَّات الألَم، والحياة الَّتي تمشي على قدمَيْنِ بَيْنَ الأسرَّة، بل أنتُم زهر الرَّحمة في صحراء المرض، وسُور الأمل في وجْهِ الانهيار... فسلام عَلَيْكم كُلَّما خفَّفتُم وجعًا، أو مسحتُم دمعة، أو رسمتُم ابتسامة!

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]