في شارع جانبي، توقَّفت سيَّارة فجأة في منتصف الطَّريق، ترجَّل مِنْها السَّائق لِيزيحَ جذع شجرة صغير سقط بسبب الرِّياح وكان يعيق مرور السيَّارات. لم يكُنْ ينتظر شكرًا من أحَد، فقط تصرَّف كما يرى أنَّ الواجب يقتضي. مشهد بسيط، لكنَّه يحمل دلالة عميقة: حين تتجذَّر القِيَم في سُلوك الأفراد، يصبح النِّظام جزءًا من الحياة اليوميَّة، ويزدهر المُجتمع.
منذُ أن شرع الإنسان في بناء الحضارات، نشأتِ القوانين لا كقَيْدٍ، بل كبوصلة تحفظ التَّوازن بَيْنَ الحقوق والواجبات، وتَضْمن أن يسيرَ الجميع في درب العدالة، حيثُ يحصل كُلُّ فرد على حقوقه ويلتزم بواجباته. عِندَما يُصبح احترام القانون جزءًا من الوعي الجمعي، لا يَعُودُ الامتثال له فعلًا مفروضًا، بل يتحول إلى نهج حياة يُعزِّز الأمن، ويصنع مُجتمعات أكثر تطوُّرًا وتماسكًا.
القوانين لا تقف عِندَ بوَّابات المحاكم، بل تتجلَّى في تفاصيل الحياة اليوميَّة. احترام إشارات المرور، الاصطفاف الصَّحيح، الالتزام بالنِّظام في الطَّوابير، والحفاظ على الممتلكات العامَّة، جميعها سُلوكيَّات تعكس عُمق إدراك المُجتمع لأهميَّة القانون. ففي بعض الدوَل، تغدو هذه التَّصرُّفات جزءًا من الرّوتين اليومي، بَيْنَما قد تواجهها مُجتمعات أخرى بعوائق ثقافيَّة أو اجتماعيَّة تجعل تطبيق القانون أكثر تعقيدًا.
إنَّ احترام القانون لا يرتبط بالخوف من العقوبة، بل يعكس مستوى الوعي وتحمُّل المسؤوليَّة. حين يلتزم الإنسان بالنِّظام في غياب الرَّقابة، سواء في سُلوكيَّاته اليوميَّة أو في أداء واجباته، فإنَّه يرسِّخ مفهومًا جوهريًّا: أنَّ القوانين ليسَتْ أدوات للرَّدع، بل ضمانات لحماية الجميع. في المقابل، فإنَّ التَّراخي في تطبيق القوانين يخلق بيئة هشَّة تقوِّض الثِّقة بَيْنَ الأفراد والمؤسَّسات، وتفتح المجال للفَوضى. تجاهل قواعد السَّلامة، مثلًا، لا يعرقل الخدمات فقط، بل قد يَقُودُ إلى نتائج مأساويَّة ويضعف الإحساس الجمعي بالعدالة والإنصاف.
يروي أحَد الأصدقاء موقفًا واجهه حين قرَّر أحَد جيرانه تحويل فناء منزله إلى مزرعة دواجن، دُونَ مراعاة لِمَا قد يُسببه ذلك من إزعاج للجيران. ورغم محاولات التَّفاهم الوديَّة، لم يُبدِ الجار أيَّ تجاوب، ما اضطرَّهم إلى اللُّجوء للجهاتِ المعنيَّة. مِثل هذه المواقف تُبرز أهميَّة وجود آليَّات واضحة وفعَّالة لتطبيق القوانين، بما يَضْمن حماية خصوصيَّة الأفراد وراحتهم. فالقانون لا يختصُّ بالجرائم الكبرى وحْدَها، بل يشمل أيضًا تفاصيل الحياة اليوميَّة الَّتي تُشكِّل في مجملها أساس الاستقرار الاجتماعي وجودة العيش.
في مُجتمعات متقدِّمة مِثل سنغافورة، أصبح احترام القوانين جزءًا من الهُوِيَّة الوطنيَّة. لا يَعُودُ ذلك إلى صرامة النِّظام وَحْدَه، بل إلى ترسيخ القناعة بأنَّ القانون يحمي الجميع دُونَ استثناء. ووفقًا لتقريرِ التَّنافسيَّة العالَميَّة لعام 2023، احتلَّتْ سنغافورة المرتبة الأُولى عالَميًّا في جودة المؤسَّسات والامتثال للتَّشريعات، وهو ما يعكس بيئة مستقرَّة تُتيح للإبداع والنُّمو أن يزدهرا دُونَ أن تهدّدَ بالفَوضى أو الظُّلم.
القوانين وَحْدَها لا تكفي، بل تحتاج إلى بيئة تنشر الوعي بها، وتقنع النَّاس بأنَّ الامتثال ليس إذعانًا بل شراكة. التَّعليم هو الخطوة الأُولى، حين تشرح المناهج الحقوق والواجبات لا نظريًّا فقط، بل من خلال أنشطة وسُلوكيَّات يوميَّة. كما يؤدِّي الإعلام دَوْرًا محوريًّا حين يُقدِّم محتوى يُبرز قِيمة النِّظام في الحياة العامَّة. حتَّى الفنون، حين تطرح قصصًا واقعيَّة عن العدالة والحقوق، يُمكِنها أن تغرسَ احترام القانون في الوجدان العام.
ولعلَّ الأهمَّ من ذلك هو البُعد النَّفْسي: الإنسان الَّذي يشعر أنَّ القانون يحميه، يعيش بهدوء داخلي، ويقلُّ توتُّره في تعامله مع الآخرين. احترام القانون يولِّد شعورًا بالكرامة، ويمنح الفرد الطُّمأنينة بأنَّ حقوقه لن تهدرَ، وأنَّه لا يعيش في غابة تحكمها القوَّة، بل في مُجتمع يحكمه ميزان العدالة. وكما قال طاغور: «حين يكُونُ القانون مستقرًّا في القلب، لا حاجة لشُرطة على الأبواب.» تلك هي الفكرة الجوهريَّة الَّتي يُبنى عَلَيْها الاستقرار الحقيقي: أن يتحولَ القانون من سُلطة خارجيَّة إلى وعيٍ داخلي، ومن التزام مفروض إلى قناعة يعيشها الإنسان في تفاصيل حياته اليوميَّة.
في بيئة مِثل سلطنة عُمان، حيثُ تتجذَّر القِيَم الاجتماعيَّة في التَّعامل اليومي، يُشكِّل احترام القانون امتدادًا طبيعيًّا لتلك الرُّوح المتَّزنة. ومع مواصلة البناء على هذه الرَّكائز، يُصبح الالتزام بالنِّظام ليس غاية فحسب، بل أُسلوب حياة يصون المكتسبات، ويُعزِّز الطُّمأنينة في النُّفوس، ويمنح التَّنمية معناها الأعمق.
نبيلة رجب
كاتبة من البحرين