تكوين المخيلة وتغذية الحس الأخلاقي
مسقط ـ العُمانية: تُعد الحكاية من أقدم الوسائل الشفهية التي استخدمها الإنسان لنقل القِيم والمعارف الإنسانية عبر الأجيال، ولكونها أداة مهمة في تشكيل وعي الطفل منذ البدايات وبناء هويته الثقافية، فقد أصبحت لغة مجتمعية لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها، فهي عامل يكتشف الطفل من خلالها ملامح بيئته ليتعرّف على عاداتها وتقاليدها، أضف إلى أنها تلعب دورًا محوريًا في تكوين المخيلة وتغذية الحس الأخلاقي والإنساني لديه، مع مساهمتها الفعلية في ترسيخ الانتماء وتشكيل ملامح الهوية الفردية والجمعية له.
في هذا السياق، يتحدّث الشاعر والكاتب المسرحي العُماني عبدالرزّاق الربيعي عن الهوية والتكوين الثقافي للطفل من خلال الحكاية، حيث التفاعل والترسيخ، وما يمكن تفعيله والعمل عليه في هذا السياق والحديث، ويقول: تمثّل الحكايات الشعبية مصدرًا مهمًا في تشكيل هوية الطفل وتعزيز تكوينه الثقافي، من هنا تأتي خطورة التعاطي مع الحكايات الشعبية، التي هي نِتاج تجارب وخبرات متراكمة، فكثير منها خلّف جراحًا نفسية ظلّت راسخة في ذاكرة وطبقات اللاوعي لدى الأطفال، وخصوصًا الحكايات المخيفة التي تتحدث عن الجن والأشباح، والحيوانات المفترسة. وكثيرًا ما ظهرت للأطفال عند منامهم على هيئة كوابيس مسبّبة الفزع والخوف لهم، لأن تلك الحكايات من نتاج المخيال الشعبي، وهو مخيال يقوم على الفطرة والعقل الجمعي، لا على التفكير المنطقي. من هنا ينبغي غربلة تلك الحكايات وإعادة إنتاجها، وحذف غير المناسب منها، وهذا لا يتم إلا عن طريق الكتابة الإبداعية وتقريبها من أذهان الأطفال، وطرحها بأسلوب مشوّق، وجعلها محبّبة لهم. علينا اختيار الحكايات التي تعزّز القيم والأخلاق.
أما الحكواتية اللبنانية سارة قصيّر الزين، فتتحدث عن الكيفية التي يمكن أن تُشكّل بها القص(الحكاية)، لتكون هدفًا يحمل قيمة أخلاقية ورمزية من خلال الصوت، لتتحوّل إلى الفكرة المراد التعبير عنها وصورة ذهنية متحرّكة لدى الطفل، مرورًا بالأدوات التي يجب العمل عليها ليكون الطفل أيضًا شريكًا في إنتاج المعنى الحقيقي المتعلق بالحكاية، وتقول: منذ القدم، شكّلت الحكاية محورًا أساسيًا في النسيج الثقافي العربي، حيث أدّت أدوارًا تتجاوز حدود التسلية إلى نقل القيم والمعرفة والتجربة الإنسانية عبر الأجيال. واحتلّت الحكاية الشفوية منزلة مرموقة في التربية، إذ كانت وسيلة لبناء الوعي الجمعي وتثبيت الهوية، من خلال مضامينها الرمزية وأشكالها التعبيرية. ومع تطوّر النظريات التربوية والنفسية الحديثة، تزايدت القناعة بأن الحكاية ليست أداة تعليم غير مباشر فحسب، بل منظومة متكاملة تُسهِم في تنمية الخيال، وتعزيز اللغة، وبناء الهوية الثقافية لدى الطفل.
وتوضِّح: في السياق العُماني، تزخر الذاكرة الشعبية بحكايات مثل: (غرنوق وسعدة) و(سعلوه في الوادي)، وهي نماذج قابلة لإعادة التوظيف ضمن مقاربات حديثة تعزّز من حضور الطفل كفاعل ثقافي، يُنتج المعنى ويُعيد بناء علاقته بجذوره وقيم مجتمعه.
وتتحدث الحكواتية الفلسطينية دينيس أسعد عن الحكواتي، وكيف يمكن أن يكرّس صوته الحسّي الظاهر ليصبح الوسيط الحيوي بين العالم الخارجي وخيال الطفل، والممكّنات التي يمكن أن يُعمل عليها لإدخال الطفل في علاقة شخصية ووجدانية مع شخصيات الحكاية: تناقُل القيم المسيطرة في أي مجتمع، الإيجابية منها والسلبية، والعادات الاجتماعية من جيل إلى جيل، كانت وما زالت من أهم وظائف الحكواتي عبر العصور، فمن خلال اختياره للحكاية وسردها بأسلوبه الخاص، مع التشديد على ما يعتبره الأهم من عناصر الحكاية، يُسهم الأمر في بلورة أفكار الأطفال، وبالتالي في التأثير على هويتهم الثقافية والوطنية، خاصة في حالتنا الفلسطينية.
وتضيف: لكل حكواتي أسلوبه الخاص في السرد، وينعكس الأمر على اختيار الحكاية التي أحبّها والتي تعكس القيم التي يؤمن بها ويرى أنها مناسبة لجمهوره، ومنها القيم الإنسانية والوطنية والدينية.
وتتحدث المدربة العُمانية والمهتمة بالتربية وأدب وثقافة الطفل، زهرة بنت أحمد الجامعية، عن الحكاية (القصة) بوصفها أداة لتشكيل الوعي لدى الطفل، ومدى تأثير رمزيتها الشعبية أو التراثية في تكوين وتشكيل هويته الثقافية، كونها أداة من أدوات التربية الوجدانية لديه، وتقول: على مر الأزمان كانت الحكاية ولا تزال أحد الأدوات الأساسية لصياغة وتشكيل ما هو مرغوب ومنبوذ في المجتمعات، ولا تزال شخوص الحكايات وأبطالها باقية، رغم أننا في بعض الأحيان لا نستطيع الجزم بأنها كانت واقعة أو حقيقية، إلا أننا توارثناها منذ اللحظة التي وصلت إلى مسامعنا، فلا تزال تلك الدهشة التي اعترتنا في اللحظة التي سمعنا فيها حكايات نور الزمان المختبئ في جذع الشجرة الذي ينفتح كل ليلة لعروسه من الإنس ليكشف لها قصرًا ممتدًا، أو علاء الدين وهو يجوب الأرض محلقًا على بساطه السحري الطائر، أو مغارة علي بابا والأربعون حرامي، باقية حتى اللحظة. لا يزال يقيننا بأن الخير لا بد أن ينتصر، وبأن الشرير سيقع في شر عمله، وأن حفظ الأمانة فوز عظيم.