«لا تكُنْ عبدًا لظنِّ النَّاس وكُنْ سيِّدًا لِيقينِكَ»، لَطالَما كانتْ عُمان ولا تزال رقمًا صعبًا في خضمِّ مجريات التَّاريخ والسِّياسة والدِّين، فهي أرض البحر ومجان وبونت ومزون الَّتي تنضحُ بالقوَّة والرَّحمة والحِكمة، يَخطُّ مسارها بَنَانٌ نقيُّ مليءٌ بالحياة والكرامة والإنسانيَّة والمسؤوليَّة، استلهم أهلُها صوت العقل؛ فدخلوا في دِين الوِئام والمَحبَّة دُونَ إكراه، فبقي جيفر وعبد ابنا الجلندى على مُلكهما، مُستشعرَيْنِ قُدّسيَّة النَّبي الأكرم، فلم تطأْ خُيوله ساحتهما، لتُشرقَ نبوَّته الكريمة في سمائهما، ويتوسَّما وِسام النَّبي الأعظم «لو أنَّكَ أهلَ عُمان أتيتَ ما سبُّوك ولا ضربوك».
إنَّ المُراقب للمشهد الوطني في الآونة الأخيرة يسمعُ بعض الأصوات النَّشاز الَّتي تسعى للتَّشكيك في إمكانات هذا الوطن الأشم، وضرب اللُحمة الوطنيَّة القويمة، وتقزيم المواقف العُمانيَّة ذات الثَّوابت الَّتي لا يُمكِن التَّنازل عَنْها؛ حيثُ لمسنا تلك الأفكار السَّمِجة، والمواقف المُتشظِّية، والدَّعوة للتَّنازل عن المبادئ الوطنيَّة والقوميَّة، فيتسلَّقون على حناجر بعض المُراهقِين خارج الوطن، وبعض الأقلام الملوَّنة، وشذرٌ مِمَّن غُرِّر بهم، فيَتلُونَ آيات الإصلاح والتَّمدُّن والتَّحضُّر، ويزعقون بإجزال الحقوق دُونَ الأخذ بِعَيْنِ الاعتبار القِيمة التَّاريخيَّة والحضاريَّة لإنسانيَّة العُماني الخالدة، ونظافة أرضه وصفاء فكره، يستفتون أفئدة النَّاس دُونَ أن يستحضروا قول الصَّحابي الجليل عبدالله بن عباس حينما كان أهلُ البصرة يستفتونه فقال لهم: «أتستفتونني وفيكم جابر»؟! ويعني بذلك الإمام العُماني الجليل والعالِم الفقيه جابر بن زيد الأزدي؛ كدلالة بَيِّنَة وقاطعة على رجاحة عقل ولسان العُمانيِّين.
وبالتَّعمُّق في بحر الطَّلاسم الَّتي ينادي بها (الإصلاحيون الجُدد) نجدها تنسلخ من ثوابت المُجتمع العُماني، وحكمة السِّياسة الوطنيَّة، وتوازن الثِّقة الدّوليَّة لهذا القطر العربي الشَّامخ؛ فنجدها تستثمر شُح الوظائف، وارتفاع مستوى المعيشة، والقرارات الاقتصاديَّة الَّتي أثقلتْ كاهل النَّاس، والإصلاحات التربويَّة والاجتماعيَّة والإعلاميَّة وغيرها من المُشْكلات الَّتي تتطلب وقفة صادقة ومسؤولة لإيجاد الحلول لها، لينثروا بذورهم السَّامة في أرض خصبة لضربِ مبادئ الأُمَّة، والتَّشكيك في مواقفها السَّويَّة، وشقِّ الوِفاق والتَّوافق بَيْنَ الشَّعب ومؤسَّسات الدَّولة وعلمائها، وتقزيم عظمة الوحدة الوطنيَّة.
يبدو أنَّ الثَّبات العُماني إنسانيًّا وقوميًّا للدِّفاع عن الحياة الكريمة والمستحقة للشَّعب الفلسطيني المرابط على ثغور الحقِّ والأرض ولسان حال هذا الولاء القِيَمي والإنساني يصدح بالقول: «غزَّة منَّا ونحنُ مِنْها» قد أزكم أنوف تُجَّار الدَّم، وسماسرة الحروب؛ فالثَّوابت العُمانيَّة عن الحقِّ الأزلي للإنسان المُناضل في فلسطين كانتْ ولا تزال كجبالها الرَّاسية الَّتي تروي لنَا قصصًا عظيمة في عُمان المَجد والتَّاريخ من شمالها إلى جنوبها ضدَّ الغُزاة والمُرجِفِين في الأرض، ومبادئنا العُمانيَّة بهُوِيَّة فلسطين كأرضٍ عربيَّة إسلاميَّة حتميَّة الوجود مهما تقلَّبت المواقف العربيَّة والإسلاميَّة.
بَيْدَ أنَّ هذا الثَّبات قد ضجَّ مضاجع كثير من الأقلام المُستعارة، وأسال لُعاب الصُّحف الصَّفراء، وفجَّر مداد المال وأشباه الشّعراء والمثقَّفين والصحفيِّين والسِّياسيِّين ليوجِّهوا غثَّهم وسَمينهم لدسِّ السُّم في العسل، وخلق محيط محبط عن النِّضال الأسطوري للشَّعب الفلسطيني بأنَّه مُغامرة ومُقامرة غير مسؤولة، ليُفرِّخُوا مفاهيم وأدبيَّات الانبطاح والانهزاميَّة نَحْوَ السَّلام مع الصَّهاينة حفاظًا على المال والحال على حساب هدر الكرامة والشَّرف؛ فتجدهم يستنطقون هدوء الموتى في قبورهم بسماجة أنَّ الموقف العُماني غير منطقي، وأنَّه لا ينبع من الشُّعور بالمسؤوليَّة تجاه دوَل الخليج والمنطقة، وقد سَمِلُوا أعْيُنهم وصمُّوا آذانهم عن المجازر والإبادة الَّتي تطحنُ البَشَر والحجر والشجر في غزَّة، واختزلوا الدِّماء الطَّاهرة الزَّكيَّة، وتارةً أخرى تجدهم يُروِّجُون لعدم الحياديَّة العُمانيَّة تجاه اليمن الصَّامد في وجْه البربريَّة الأميركيَّة والغربيَّة، بل يتعدَّى الأمْر لاتِّهام هذا البلد العظيم بتهريب الأسلحة والذَّخائر وغيرها للمقاوَمة اليمنيَّة الرَّافضة لقتلِ الإنسانيَّة في غزَّة، علاوةً على بثِّ سمومهم وشكوكهم في مصداقيَّة وطنيَّة مَن يدعو لمقاطعة الشَّركات الدَّاعمة للكيان الصهيوني؛ مُستغلِّين عواطف النَّاس بأنَّ ذلك ضرب للاقتصاد الوطني وتعميق لإشكاليَّة التَّسريح وعدم التَّوظيف.
مَن يقرأ التَّاريخ العُماني ـ قديمه وحديثه ـ يجد أنَّ إنسان هذه الأرض الخالدة لا يقبل الظُّلم، فقَدْ كانتْ مدافع الأسطول العُماني منذُ القِدَم لا تهدأ في مقارعة المعتدين والظَّالَمِين وإحقاق الحقِّ الكريم للحياة والكرامة في بلاد الرَّافدين والشَّام وجنوب شرق إفريقيا والصِّين وبلاد السِّند والهند وفارس وصولًا إلى آسيا الصُّغرى، كما لم يَقبلِ العُمانيون على أنْفُسهم أن تُغتالَ الحياة لابتزازات سياسيَّة أو مصالح شخصيَّة وفئويَّة في تاريخها الحديث؛ فحينما كانتْ تدُور رحَى حرب الثَّماني سنوات الاستنزافيَّة (1980-1988) بن شَعبَيْنِ متجاورَيْنِ (إيران والعراق) وبإيعاز واندفاع شديدَيْنِ من غربي وإقليمي؛ لإخماد الثَّورة الإيرانيَّة وخلق (كيبوتسات) يصفون أنْفُسهم بالفقهاء والعلماء ليستحدثوا فِقه العُنصريَّة لإذكاء مستنقعات الموت والتَّدمير، كان الصَّوت العُماني رخيمًا بالدَّعوة نَحْوَ تغليب الحكمة والعقل والاحتكام للرُّوح والإنسانيَّة النَّبيلة واحترام الجيرة، فكسبت عُمان الرِّهان وخسر الآخرون، والعالَم اليوم جميعه يُشخصُ بصره وبصيرته نَحْوَ مسقط لتفاهُمات استراتيجيَّة بَيْنَ إيران والولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، وبالأمس القريب كانتِ التَّفاهمات بَيْنَ الأميركان والحوثيِّين والقادم أعظم.
لَطالَما كانتْ عُمان مهدَ الحكمة والتَّفاهمات وتذويب الفوارق بَيْنَ المتخاصمين؛ فهي بوَّابة السَّلام، وقِبلة الانسجام، ونازعة فتيل الحروب والصِّراعات في أوقاتٍ لا يتوقَّعها المُتعطِّشون لدماء الشُّعوب وسفاهة العقول وسماجة الاندفاع، وما ذلك إلَّا نتيجة طبيعيَّة لبلد مليء بالخبرات الحضاريَّة والتَّاريخيَّة والنُّضج السِّياسي والقدرة على هندسة المُجتمع بثوابته ومبادئه الَّتي لا يَقبل التَّسويف بها أو احتقارها، فيا فقراء المبادئ والكرامة والتَّاريخ لو أنَّكم أهْلَ عُمان أتيتم لكسبتم كرامة حفظ ماء الوجْه، وتعلَّمتم القِيَم والأخلاق النَّبيلة، ومخرتُم بحر العزَّة والأنفة والحياة الكريمة.
د. سلطان بن خميس الخروصي