ليس عنوانًا تشاؤميًّا، فهو واقع مشاهد للعيان ولا شك فيه، حيثُ يبدو بالفعل أنَّ النِّظام العالَمي الَّذي تشكَّل بعد الحرب العالَميَّة الثَّانية، ومرَّتْ عَلَيْه العديد من التَّغيُّرات والتَّحديثات أثناء الحرب الباردة وسقوط الاتِّحاد السوفيتي وانهيار برجَي التِّجارة العالَميَّة في الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، يبدو أنَّ هذا النِّظام مستمرٌّ في التَّهالكِ والانهيار والتَّحطُّم، سائرٌ في الاتِّجاه الَّذي طالَما رسمَتْه له أيادي القوى المحرِّكة للفَوضى والاضطرابات حَوْلَ العالَم، خصوصًا القوى الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة.. ولا ننسى جانبًا آخر من جوانب تَشكُّل وبناء الأنظمة العالَميَّة وهو الاستمرار في الاتِّجاه إلى الأمام؛ لأنَّه الطَّريق الوحيد أمام العالَم.
بمعنى آخر «ليس أمام الحضارات جميعها إلَّا التَّوَجُّه نَحْوَ الأمام، حتَّى وإن كان هذا الأمام هو نَحْوَ تدهوُرِها وسعيِها نَحْوَ حتفها. لأنَّ التَّدهوُر أيضًا يُعَدُّ مرحلة متطوِّرة للحضارة، المرحلة الَّتي تبدأ فيها الحضارة التَّالية بوضع أُسُسها، يعني انتهاء مرحلة لبدءِ مرحلةٍ أخرى، مِثلها مِثل الحصان الَّذي يتسلق الجبل بحمولته، لا أملَ له إلَّا في الصُّعود، إنَّه محكوم عَلَيْه بالصُّعود إلى الأعلى كَيْ لا يخرَّ صريعًا؛ لأنَّ أيَّ توقُّف لا يعني سوى موته المؤكّد. لا مجال إذًا للتَّراجع والعودة إلى نقطة البدء، لا مجال للتوقُّف. ومن أجْلِ الحفاظ على وجوده ليس أمامه إلَّا اختيار واحد، وهو الاستمرار في الصُّعود».
حتَّى أنَّ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة والَّتي أقنعَ البعض نَفْسه بأنَّها مَن يُمسك عقال هذا النِّظام قد أفلتَ مِنْها، فهي مجرَّد سفينة يظهر عَلَيْها التَّعب والتَّخبُّط وعدم الاتِّزان في هذا العالَم، تواجه أكثر مخاوفها التَّاريخيَّة، إنَّها الغطرسة وتنمُّر العالَم عَلَيْها، من منافس على الهيمنة ومركز التَّحكُّم، إلى مدافع أمام الصِّين وروسيا والمارِقِين الصِّغار من القوى الصَّغيرة والَّتي تعمل في المناطق الرَّماديَّة، في وقتٍ يتأرجح فيه العالَم بَيْنَ الحرب الروسيَّة الأوكرانيَّة، والحرب الهنديَّة الباكستانيَّة؛ بَيْنَ الملف النَّووي الإيراني، وملف الصِّراع العربي الفلسطيني، وملف التَّدخُّل الحوثي في هذا الصِّراع الكوني.
وعلى ما يبدو فإنَّ تحطيم الإرادات السِّياسيَّة للسَّلام واضحة للعيان، فما أن تظهرَ دَولة ما وتسعَى للتَّهدئة حتَّى يثيرَ تلك التَّهدئة شياطين الحرب والفَوضى، فما من قدرة لهذا النِّظام على السَّكينة والتَّهدئة، حتَّى أنَّ النِّظام نَفْسه قد يصل أحيانًا إلى معالجة نَفْسه بِنَفْسِه، ولكن مع الأسف فإنَّ هذا الوضع لا يكُونُ ملائمًا للكثير من القوى المحرِّكة للعلاقات والمصالح والاضطرابات العالَميَّة؛ لأنَّ السَّلام والتَّهدئة فترة غير مواتيَّة للرِّبح والمصالح.
الجدير بالذِّكر أنَّ العديد من المراقبِينَ والمُحلِّلين السِّياسيِّين يعتمدون على مسألة التَّدخلات السِّياسيَّة (دبلوماسيَّة التَّهدئة) من خلال القوى الكبرى نَفْسها لكبح جماح هذا الاتِّجاه المعادي للسَّلام، مِثل تدخُّل أميركا وروسيا والصِّين والدوَل الأوروبيَّة وغيرها من الدوَل الَّتي يُمكِن أن تعملَ على تهدئة النِّظام العالَمي كما هو حال سلطنة عُمان والَّتي اعتاد الشَّرق الأوسط أن تعملَ كإطفائي للعديد من الملفات السَّاخنة في هذه البقعة من العالَم المضطرب.
وبحسب تعبير كينث والتز أستاذ العلوم السِّياسيَّة وعضو هيئة التَّدريس في كُلٍّ من جامعة كاليفورنيا في بركلي وجامعة كولومبيا وأحَد أبرز العلماء في مجال العلاقات الدّوليَّة فإنَّ «الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء سوف يتصرفون كما تصرَّفتِ البُلدان دائمًا إزاء تعرُّضها لتفوُّق أحَدها أو التَّهديد بتفوقه: أي أنَّهم سيعملون معًا على تصحيح الميزان، فالحالة الرَّاهنة للسِّياسة الدّوليَّة غير طبيعيَّة» حيثُ يحاول الجميع ملء الفراغ الحاصل نتيجة تشكُّل النِّظام العالَمي القادم، في محاولة لإثبات الذَّات حتَّى على حساب السَّلام والتَّهدئة، فالجميع بلا استثناء يسعَى للحصول على مقعد دائم في النِّظام العالَمي القادم.
هذا النِّظام الَّذي يَصِفه أستاذ التَّعاون الدّولي في قِسم العلوم السِّياسيَّة بجامعة برانديز سيوم براون بأنَّه سيكُونُ من أكثر الأنظمة الدّوليَّة الَّتي عرفَتها البَشَريَّة «نزوعًا للحرب، ليس بسبب لاعبيه ونوعيَّاتهم وجرَّاء تركيبته المتناقضة جذريًّا مع الاستقطاب فقط، بل لأنَّ سرعة تقلُّبات صداقاته وعداواته والَّتي تجعل أمْر تشكيل التَّحالفات المُقنعة وديمومتها أمرًا بالغ الصُّعوبة، لذا فإنَّ احتمال ردع الحرب أقلّ ورودًا ممَّا في الأنظمة القائمة على قدرٍ أكبر من الاستقطاب».
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @