بدأتِ المُدُن الصِّناعيَّة تأخذ مكانها الطَّبيعي كأعمدة ارتكاز في مشهد اقتصادي يُعاد تشكيله على مهلٍ في سلطنة عُمان، لا بوصفها مناطق إنتاج معزولة، بل كمراكز تنمويَّة تُعِيد رسم الخريطة الاقتصاديَّة للبلاد، وتُشكِّل مدينة صحار الصِّناعيَّة نموذجًا لِمَا كان يُنظر إِلَيْه قَبل سنوات كمشروع تنموي طموح، صار اليوم نموذجًا مجسِّدًا للتنوُّع الاقتصادي في أقرب صوَره للتَّطبيق. فقَدِ استقبلتِ المدينة أكثر من (62) طلبًا استثماريًّا خلال عام ٢٠٢٤ فقط، وتمَّ توطين (38) مشروعًا، مِنْها بأكثر من (87) مليون ريال عُماني، على مساحات تقترب من نصف مليون متر مربَّع.. وهذه النَّهضة الكُبرى لم تَعُد مجرَّد أرقام صمَّاء، وإنَّما دلالة على إيقاع اقتصادي مختلف، يحرِّكه استقرار تشريعي وتخطيط عمراني ذكي، وموقع جغرافي لم يستغلَّ بعد بكامل طاقته. والأهمُّ أنَّ هذه الأرقام لم تأتِ من فراغ، بل من تراكم ثقة تراها في ازدياد عدد المستثمِرِين ونَوعيَّة المشروعات الَّتي بدأتْ تَظهر على الخريطة، مشاريع تبحثُ عمَّا هو أكثر من مكان، بل تبحثُ عن بيئة حاضنة تنمو فيها.
ومن هذه البيئة خرج مُجمَّع الصِّناعات البلاستيكيَّة (لدائن) كأحَد أبرز تجلِّيات الرُّؤية الصِّناعيَّة الجديدة، حيثُ تتحول الصِّناعة من إنتاج نمطي إلى سلاسل قِيمة مضافة، فالمُجمَّع لم ينتظرْ طويلًا لِيثبتَ نَفْسه.. فبتوطين (16) مشروعًا باستثمارات تجاوزتْ (31) مليون ريال، بدأ فعليًّا في تغيير قواعد اللُّعبة، وأحَد هذه المشاريع دخل الإنتاج، واثنان آخران على وشك، مِثل مشروع شركة (معدن متعدِّد السَّندات) المختصِّ في تصنيع شرائح وصفائح بلاستيكيَّة، والَّذي يمتدُّ على (30) ألف متر مربَّع. ولا يتعلَّق الأمْر هنا بتوفير سلع، بل ببناء قِطاع صناعي متكامل يبدأ من المواد الخام ويصل إلى منتجات قابلة للتَّصدير، فـ(لدائن) يُقدِّم حالة عمليَّة على قدرة عُمان على احتضان صناعات تحويليَّة تُنافس بجودتها لا بكلفتها فقط، ويجعل من مدينة صحار ليس مجرَّد موقع جغرافي، بل مركز ثقل لصناعاتٍ تملك بُعدًا استراتيجيًّا، فهنا تُصنع اللَّبنات الأُولى لصادراتٍ غير نفطيَّة تعتمد على الابتكار وليس فقط الموارد.
وبِنَفْسِ المنطقِ الَّذي يسعَى لتوسيع القاعدة الإنتاجيَّة، جاء مشروع التجمُّع المتكامل للألمنيوم كخطوةٍ محسوبة بعناية في الطَّريق ذاته، لِيثبِّتَ أقدام السَّلطنة في واحدة من أكثر الصِّناعات أهميَّة عالميًّا، فهناك أكثر من (770) ألف متر مربَّع خُصِّصتْ لهذا المشروع، وهو رقم يُشير إلى نيَّة واضحة لتأسيس بنية صناعيَّة ثقيلة، تُمكِّن عُمان من التَّحكُّم في سلاسل القِيمة ضِمن قِطاع الألمنيوم، لا باعتبارها مجرَّد دَولة تصدِّر المادَّة الخام، بل باعتبارها منصَّة تحويل وتصنيع قادرة على خلقِ منتَجات نهائيَّة تدخلُ في صناعات السِّيارات والطَّاقة والبناء. فما يحدُث هنا لا علاقة له بالشِّعارات، بل هو تطبيق ميداني لرؤية اقتصاديَّة تعرف إلى أين تتَّجه، ووجود مصانع تحويليَّة تكمِّل بعضها البعض في بيئة لوجستيَّة جاهزة، يرفع القِيمة المحليَّة المُضافة، ويُعِيد توزيع الفائدة الاقتصاديَّة على أطراف مُتعدِّدة، من المستثمر إلى العامل إلى الدَّولة. وهذه ليسَتْ نظريَّات، وإنَّما مشروعات على الأرض بدأتْ تُحدِث الأثَر.
ومع تسارُع هذه المؤشِّرات، يُمكِن القول إنَّ مدينة صحار ليسَتْ منطقة صناعيَّة فحسب، وإنَّما تحوَّلتْ إلى منصَّة وطنيَّة لبناء مستقبلٍ اقتصادي مختلف، أكثر استقلالًا واستدامة، وما تفعله سلطنة عُمان الآن هو تفكيك الاعتماد المُزمن على النِّفط، وذلك ببناء منظومات بديلة تُغنيه ولا تُلغي دَوْره، فالنُّمو هنا لا يُقاس بنسبة ارتفاع النَّاتج المحلِّي فقط، بل بعُمق التَّغيُّر في بنية هذا النَّاتج، وتحويل الصِّناعة إلى قِطاع رئيس لا يأتي بَيْنَ يوم وليلة، إنَّما يحتاج إلى بنية أساسيَّة، وبيئة تشريعيَّة، وموارد بَشَريَّة تعرف كيف تُنتج لا كيف تستهلك فقط. فمدينة صحار، بما تحتضنه من مشاريع، تُمثِّل بداية موجة جديدة، موجة يُمكِن أنْ تمتدَّ إلى مناطق صناعيَّة أخرى إذا ما تمَّ البناء على نَفْسِ النَّمط الذَّكي المتكامل، فهل نحن أمام لحظة تحوُّل مفصليَّة؟ يبدو أنَّ الجواب في الدُّخان المُتصاعد من مداخن المصانع الجديدة، وليس في التَّصريحات... نعم، النَّهضة بدأتْ، والمصانع تقول كلمتها بصوتٍ أعلى من كُلِّ الوعود.