ما يجري في قِطاع غزَّة ليس عدوانًا غاشمًا أو حربًا بَيْنَ دولتَيْنِ، وإنَّما عمليَّة إبادة جماعيَّة مكتملة الأركان تُنفَّذ بوعي وإصرار دُونَ حسيب أو رقيب، حيثُ تُرتكب عشرات المجازر يوميًّا بحقِّ المَدَنيِّين الفلسطينيِّين العُزَّل، وسط صَمْتٍ دولي وتواطُؤ بعض القوى النَّافذة. فخلال (24) ساعةً فقط، تجاوزَ عددُ الشُّهداء المئة، فيما بلغَ عددُ المُصابِينَ المئات، مُعْظمهم من النِّساء والأطفال، في استهدافٍ واضح للمَدَنيِّين، لا يُمكِن اعتباره نتيجة أخطاء أو أضرار جانبيَّة كما يروِّج كيان الاحتلال الصهيوني وحلفاؤه؛ ذلك أنَّ القصفَ لا يطولُ مواقع عسكريَّة، أو مواقع تابعة حقيقةً للمقاوَمة، بل يتركز على منازل آمِنة، ومراكز إيواء، ومَرافق حيويَّة، فحتَّى المستشفيات لم تسلَمْ، كما أنَّ مراكز التَّعليم والملاجئ تُضرَب بلا هوادة، وهنا لا يُمكِن فَهْمُ هذه الممارسات بمعزلٍ عن سياقٍ طويل من السِّياسات الهادفة إلى تقويض قدرة النَّاس على الحياة، في مشهدٍ يتكرر كُلَّ يومٍ، ويفتح جراحًا جديدة كُلَّ ساعةٍ.. فهذا النَّمط من الهجمات المتعمَّدة لا يستهدف فقط أجساد الضحايا، بل يضرب ما تبقَّى من أملٍ لدَى السكَّان، ويحوِّل الحياة نَفْسها إلى عِبء، والمستقبل إلى كابوسٍ دائم، وهو الهدف الرَّئيس من الحرب الإباديَّة الجارية فصولُها، فإمَّا أنْ تموتَ أو ترحلَ قسريًّا.
حين يُحاصَر شَعبٌ بأكملِه في بقعةٍ ضيِّقة تُقصَف من الجوِّ والبَرِّ والبحر، ويُقطَع عَنْه إمدادات الغذاء والدَّواء والماء والكهرباء، فإنَّنا لا نتحدَّث عن حربٍ عدوانيَّة تقليديَّة، وإنَّما نتحدَّث هُنَا عن هندسةِ موتٍ جماعي وإبادة لم يَشْهَدْها التَّاريخ الحديث. فمنذُ أشْهُر يُعاني أكثر من مليونَي إنسان في غزَّة من الجوع والعطش والبَرْد، وسط دمارٍ كامل للبنية الأساسيَّة، وإغلاقٍ تامٍّ للمعابر، وحرمانٍ من المساعدات الإنسانيَّة، بشهادة كافَّة المنظَّمات الإغاثيَّة، فلا يدخل الدَّواء إلَّا بالقطَّارة، ولا يُسمح للمُصابِيْنَ بمغادرة القِطاع لِتلقِّي العلاج.. كُلُّ ذلك يَحدُث مع معرفةٍ تامَّة بنتائجه، وسابق إصرار وترصُّد، والنَّتائج المترتِّبة معروفة وهي: المجاعة والمَرَض والانهيار التَّام للمُجتمع المَدَني.. فمئات آلاف الأطفال يُعانون من سُوء التَّغذية، وآلاف الأُسر بلا مأوى، فيما تنهار المنظومة الصحيَّة والتَّعليميَّة بالكامل، وحتَّى المؤسَّسات الخيريَّة ومطابخ الإغاثة أغلقتْ أبوابها بسبب شحِّ الموارد، في إشارةٍ قاتمة إلى نهايةٍ مُظلمة تلوحُ في الأُفق، فهذه ليسَتْ ظروفَ حربٍ، بل معاييرُ تطهيرٍ بَشَري؛ تمهيدًا لتغييرٍ ديموغرافي قسري يفتحُ المجال لمرحلةٍ أكثر وحشيَّة، وأكثر فتكًا بالوجود الفلسطيني.
ما يؤكِّد حقيقة الإبادة هو التَّوَجُّه المُعلَن لاستهداف المَدَنيِّين الفلسطينيِّين، كمُكوِّن جماعي يَجِبُ مَحْوُه أو تهجيرُه.. نحن لا نتحدَّث عن تحليلات افتراضيَّة أو قراءات عاطفيَّة، بل عن تصريحاتٍ مباشرة من مسؤولين صهاينة، يَدْعون إلى (مَحْوِ غزَّة) أو (تجويعها حتَّى الرُّكوع)، دُونَ خجلٍ أو مُواربة، فهذا النَّوع من الخِطاب حين يقترنُ بأفعالٍ على الأرض، يُشكِّل دليلًا لا يُمكِن تجاهلُه على وجود نيَّة مبيَّتة لإبادة جماعيَّة، فالقصف العشوائي والتَّضييق الممنهج وتهجير السكَّان قسرًا، كُلُّها أدوات تُستخدم ضِمْن منظومة سياسيَّة ترى في وجود الفلسطيني خطرًا يَجِبُ تصفيته، وهو ما يؤكِّد أنَّ ذلك الإرهاب لا يتعلَّق بحربٍ دفاعيَّة أو صراع حدودي، بل بمشروع إلغاء وجود، يتمُّ تنفيذُه على مراحل، بالقتل، بالقهر، بالتَّجويع، ثمَّ بالتَّهجير، فلا يُمكِن فصلُ ما يحدُث في غزَّة عن السِّياسات الاستيطانيَّة في الضفَّة الغربيَّة، والاعتداءات اليوميَّة في القدس، فالسِّياق واحد، والهدف واحد: تدمير الشَّعب الفلسطيني كجماعة قوميَّة وحرمانه من حقِّه في تقرير المصير، بل ومن حقِّه في البقاء أصلًا.
أمام هذا الواقع المُروِّع، يقف العالَم متفرجًا، عاجزًا عن تفعيل أدواته القانونيَّة والأخلاقيَّة، فالهيئات الدّوليَّة، رغم تقاريرها وتحذيراتها، لم تملكْ حتَّى الآن الجرأة الكافية لاتِّخاذ موقفٍ حاسم، بَيْنَما تواصل بعض الدوَل الكُبرى دعمها غير المشروط للاحتلال، سياسيًّا وعسكريًّا. وغدَتْ لا تُجدي نفعًا التَّصريحات الفضفاضة أو الدَّعوات الخجولة لوقفِ إطلاق النَّار، ما دامتْ آلةُ القتل مستمرَّة والمساعدات ممنوعة. حالة الشَّلل الدّولي ليسَتْ حيادًا، بل تواطؤًا. فما الجدوى من المواثيق والمعاهدات إن لم تطبَّق على الجريمة الأوضح في القرن الحادي والعشرين؟ فما يجري الآن في غزَّة هو اختبار حقيقي للنِّظام الدّولي، فإمَّا أنْ ينهضَ بمسؤوليَّاته، أو يسقط إلى الأبد في هاوية النِّفاق والانتقائيَّة، فالإبادة الجماعيَّة لم تَعُدْ احتمالًا، بل أضحتْ واقعًا مريرًا يبثُّ على الهواء مباشرة، في زمنٍ تخلَّى فيه العالَم عن قِيَمه، وتركَ شَعبًا أعزلَ يُقاوم الموت بكُلِّ ما تبقَّى له من كرامةٍ، وصَبرٍ، وإيمان بالحياة.