ها هي الأيام تمضي وتطوى سريعًا.. حيث سنستقبل بعد فترة وجيزة أيامًا مباركة تهل نسماتها الروحانية على كل مسلم.. ويشده شوقًا وحبًّا إليها.. إنها أيام المناسك والحج.. هذه الرحلة الإيمانية إلى تلك العرصات الطاهرة.. إلى المدينة ومكة ومنى وعرفة والمزدلفة، فما أعظمها من رحلة يشترك فيها الفقير والغني ومن كل فجٍّ عميق قد أتوا إلى هذه الرحاب الطاهرة يجتمعون في مؤتمر إسلامي سنوي تغشاهم رحمة الله وتحفهم ملائكة الرحمن وهم يرددون:(لبيك اللهم لبيك).
ما أجمله من منظر روحاني وأنت ترافق تلك الجموع في تلك الأماكن بلبسٍ واحدٍ، وفي وقتٍ تقطع تلك المسافات بين الزحام على الاقدام أو بالحافلات.. وتتذوق حلاوة الصبر ممزوجة برحيق الإيمان.. إنها مشاهد تذكرك كل مشهد من هذه المشاهد بيوم الحساب عبر هذه الرحلة التي تراود كل مسلم في مشارق ومغاربها وهو حاليًا يتعطش ليذوق حياة إيمانية مختلفة في تلبية نداء الله بأداء هذه الفريضة هذا الشعور والإحساس يراود كل مسلم إلى البيت الحرام إخلاصًا ويقينًا لنداء الله ودعوة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم ـ 37)، وقال تعالى:(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (التوبة ـ 3). ها أنت أيها المسلم تغادر بلادك متوجّهًا لإداء هذه الفريضة وتترك كل شيء في هذه الدنيا من الأموال والأولاد متحمّلًا مشاق الطرق وما يقع لك في السفر مضحّيًا بصحتك ومالك.. خرجت لرحمة الله طالبًا جوده وعفوه وكرمه.. لبّيت نداء الله بشوق وصدق وعفو الله لتنال التوفيق في أداء الحج الذي اجتمعت فيه العديد من الاعمال والعبادات.
فبشرى طيبة مباركة لمن وفق هذا العام ليلحق بركاب ضيوف الرحمن حجاج بيت الحرام وقد بيّن لنا رسولنا وحبيبنا وشفيعنا سيدنا محمد (صلى الله عليه السلام) جزاء لمن وفق في أداء فريضة الحج، قال النبِيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم):(الْحجُّ المَبْرور ليس له جزاءٌ إلاَّ الْجنَّة)، وفي كل عام يشدُّ المسلمون محبة ومرضاة لرب العالمين إلى هذه الرحلة المباركة التي سوف تسطر في سجل الحسنات وتعلقت قلوبهم في الله.. يسألون الله أن يكونوا من الأوائل الحاضرين في هذا التجمع المبارك العظيم، ومن لم يوفق هذا العام في اللحاق بهذا المؤتمر العظيم المبارك تتحسر نفوسهم ويتأسفون على ذلك، ويفوت عليهم عام مبارك وهم لم يؤدوا هذه الفريضة، وهناك الكثير من المسلمين تمرُّ عليه الأعوام عامًا بعد عام، وقد مضى من عمره الكثير ولم يلبي هذا الركن المبارك ولم يعطِ أهمية هذه الفريضة، وكأن الحج قد فُرِض على غيره، يقول (عليه الصلاةُ والسلامُ):(بُنيَ الإِسلامُ على خمسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيتِ، وَصَومِ رَمَضَانِ).
حقًّا أنها أنوار مشرقة مضيئة على حجاج بيت الله وهم يتوافدون إلى مكة والمدينة مرددين:(لبَّيك اللهم لبَّيك، لبيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك)، استجابة لأمر خالقهم ـ جلّت قدرته ـ سائلين الله أن يتقبل منهم تلك المناسك العظيمة، قال تعالى:(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج 27 ـ 28).
وقد دعا رسول الله أمته إلى الإسراع وعدم تأجيل هذه الفريضة العظيمة لمن استطاع إليها سبيلًا، فقال (صلَّى الله عليه وسلَّم):(تَعَجَّلوا إلى الحج ـ يعني: الفريضة ـ فإنَّ أحدكم لا يدري ما يَعْرِض له)، وقال (عليه الصلاة والسلام):(من أراد الحج، فليتعجل، فإنَّه قد يَمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة)، ولم يقتصر (صلى الله عليه وسلم) على الترغيب، فحذّر أولئك الذين لم يحجوا وهم مقتدرون على ذلك من الوعيد الذي سيلحقهم إنْ لم يستجيبوا، فقال (صلى الله عليه وسلم):(من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يَموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)، وقال:(من مات ولم يَحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سُلطان جائر، فليمت أي الميتتين شاء: إمَّا يهوديًّا أو نصرانيًّا)، ومما أثر عن السلف أنَّهم كانوا يبادرون لتأدية فريضة الحج، ويحذرون من تأخيرها، يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه:(لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فلينظروا كلَّ من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين)، وأما علي (كرّم الله وجهه) فقد قال:(من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى البيت ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا).
أخي المسلم.. حاسب نفسك وقف وقفة صارمة واسأل نفسك إلى متى وأنت تستمع في أحوال الدنيا وزخارفها وقد نسيت الآخرة؟، ماذا أعددت للآخرة الباقية؟!، يا من بلغت من العمر الخمسين أو الستين أو أكثر أو أقل وأنت تنعم بالصحة والعافية ويسر الله لك من المال الذي من خلاله تستطيع أداء هذه الفريضة وتسمع وترى كل عام حجاج بيت الله وهم يستعدون من وقت طويل مُلبّين نداء الرحمن وأنت عامًا بعد عام تتأخر وتتثاقل لتأدية هذا الركن العظيم.. كيف يا من أشغلته دنياه وهو في كدٍّ وتعبٍ وعملٍ متواصلٍ ويقول: أخاف على نفسي من الإرهاق والتعب وأنا في أيام متتالية أقضي مناسك الحج.. وكيف ترتاح نفسه وضميره أن يؤجل ويؤخر الحج مع توافر لديه جميع متطلبات الحج علمًا أن بعض المسلمين في كل عام يقضي أيامًا في العديد من الدول للسياحة والنزهة وينفق المال الكثير من أجل رغبة النفس.. إلى متى التأخير والتأجيل وأنت لا تعلم أين تكون في العام القادم هل على الأرض أم تحت الأرض؟ وكيف تكون أحوالك الصحية والمالية؟! فانطلق بعزمٍ وإرادةٍ صادقة وشمّر مع الصالحين واختر الصحبة الصالحة التي تعينك في تأدية هذا المناسك وتعيش كل أيام وليالي الحج وأنت مع ضيوف الرحمن تتلذذ بتكبير والتحميد والتسبيح والشكر لله.. لا تترك تمرُّ عليك لحظة من عمرك بدون ذكر وأنت في أعظم الأوقات ومضاعفة العمل في عرصات الله الطاهرة مع وفود الرحمن وفي وقت وزمان واحد.
إعداد ـ مبارك بن عبدالله العامري
كاتب عماني