«العدول فـي الرسم المصحفي ودلالاته البلاغية والإيمانية» «5»
.. ومجيء الفعل محذوف الياء التي أصلها الواو؛ لكي يبين أنه نُجِّيَ من العقاب، وأُبْعِدَ عن الابتلاء، فكأنه استثني من جملة مَنْ عوقبوا ، وأُخْرِجَ من عُدَّة من عذبوا، فراحت ياؤه تظهر لنا النجاة، والانفلات من العقاب، ومعلوم أن الأواخر مبتلاة؛ لأنها تظهر عليها علاماتُ الإعراب، فكأنها نَجَتْ، ورَاحَتْ من غير أن تُنالَ بسوء، وتحكي رحمة الله بالمؤمنين في إنجائهم من البلاء، والعقاب، والنقمة بأهل الكفر، والشرك، والمعصية، فحذفها نجاة في الرسم، وهو نجاة في الواقع المَعِيش، فجاءت المخالفة في الرسم المصحفي؛ لترسم شكل النجاة، واستثناء أصحابه من البلاء، والعقاب، وإبعاده عن محل النقمة، ومكان الفتنة.
والفعل نفسه:(نُنْجِي) ذُكِرَ كاملا في آيات أخرى، كما قال الله تعالى:(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء 87 ـ 88)، فهنا ذُكِرَتْ أحرف الفعل كاملة في حق سيدنا يونس ـ عليه السلام ـ في أن الله أنجاه نجاة تامة من موت، وهلاك محقق، وهو ابتلاع الحوت له، وبقاؤه فترة في بطنه، ومعدته، ثم أمر الله الحوت أن يلفظ به على الشاطئ، فخرج كاملًا دون أيِّ مساس به، والدليلُ بقاءُ الياء من غير ما حذف؛ لتحكي نجاة صاحبها نجاة تامة كاملة، فبقاء الفعل كاملًا دون حذفٍ في تلك الحالة، وذلك السياق هنا؛ لبيان الفضل الشامل، والنعمة التامة على سيدنا يونس ـ عليه السلام ـ بعد أن ابتلعه الحوت في بطنه بلعًا تامًّا، وغاب فترة في بطنه، لكنه لما نادى ربه في ظلمات بطن الحوت، واعترف بأنه ظلم نفسه، وأقرَّ بذلك نجَّاه الله، فخرج سالمًا، مُعافى، وهو موقف وفضل لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى وحده.
والعجب هنا أن الفعل الأول:(الذي حذفت منه ياؤه) جاء الحذف فيه لهدف وغاية ودلالة سامية، وأن الفعل الثاني هنا:(الذي قد بقيت ياؤه) أيضًا قد كان إبقاء الياء فيه لعلة كبيرة، وغاية سامية، وهما في الحالتين كناية عن فضل الله، ورحمته بأنبيائه، وجميل عنايته، وحسن رعايته للمؤمنين به، لا يتركهم ربُّهم، بل يراقبهم، وهو دائمًا معهم، وينجيهم في كل زمان، وكل مكان، ومن كل ابتلاء، واختبار، وهو دليل على قيوميته، وعلمه بكل ما يكون في كونه.
وهكذا بدا العدول في الرسم المصحفي متجاوبًا مع سياقه، متناغمًا مع ظرفه، متماشيًا مع الدلالة العامة للآية، والسورة التي ورد فيها، وهو من أخص خصائص، وأروع سمات الكتاب العزيز.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية