تُعَدُّ الشَّركات الواعدة ـ خصوصًا تلك الَّتي تنشأ في بيئة محليَّة ـ وتتمتع بإمكانات نُموٍّ عالية، من الرَّكائز الحيويَّة لأيِّ اقتصاد يطمح لِتَحقيقِ استدامة حقيقيَّة بعيدًا عن الاعتماد الرّيعي، فهذه الشَّركات غالبًا ما تبدأ صغيرة، لكنَّها تحمل في جوهرها بذور التَّحوُّل إلى كيانات مؤثِّرة إذا ما أُتيح لها الدَّعم المناسب من حيثُ التَّمويل، والتَّأهيل الإداري، والوصول إلى الأسواق.. ففي الاقتصادات الَّتي تُعاني من البطء في النُّمو أو من الهيمنة المفرطة لقِطاع واحد كالنِّفط، يصبح التَّعويل على هذه الشَّركات واجبًا وطنيًّا، لا مجرَّد خيار اقتصادي، فهي تخلق الوظائف، وتضخُّ الرُّوح في القِطاعات الصِّناعيَّة والخدميَّة، وتُحفِّز بيئة الابتكار، وتَبْني رأس مال بَشَري مُتجدِّد، لذا فإنَّ دعمها لا يَجِبُ أنْ يتمَّ من بوَّابة الدَّعم الحكومي التَّقليدي فقط، بل من خلال فتح قنوات تمويل جديدة أكثر ديناميكيَّة، كالسُّوق المالي الَّذي لا يوفِّر المال فحسب، بل يمنح هذه الشَّركات أدوات للمنافسة، ويفرض عَلَيْها الحوكمة والشفافيَّة، وهما شرطان لا غِنى عَنْهما للنُّمو الصحِّي.
ومن تلك الأهميَّة الكبرى لتلك المؤسَّسات، جاء اللِّقاء التَّعريفي الأوَّل الَّذي نظَّمته بورصة مسقط حَوْلَ (سُوق الشَّركات الواعدة)، لِيُشكِّلَ تحركًا محسوبًا نَحْوَ تفعيل هذه الرُّؤية، من خلال ربط رأس المال المحلِّي بالشَّركات النَّاشئة والصَّاعدة، الَّتي تملك مُقوِّمات النُّمو ولكنَّها تفتقر إلى آليَّات التَّمويل المناسِبة، فاللِّقاء الَّذي نُظِّم بالتَّعاون مع غرفة تجارة وصناعة عُمان، لم يكُنْ مجرَّد مبادرة إعلاميَّة، بل خطوة عمليَّة ضِمْن سلسلة لقاءات أوسع تهدف إلى توسيع الخيارات التَّمويليَّة، وتفكيك الحواجز النَّفْسيَّة والتَّنظيميَّة الَّتي لَطالَما أعاقتْ انخراط هذه الشَّركات في السُّوق المالي، وأهمّ ما يتضمَّنه هذا البرنامج التَّحفيزي المعلن هو أنَّه يتناول ثلاث شرائح مختلفة من الشَّركات وهي، الشَّركات العائليَّة الرَّاغبة في التَّحوُّل إلى مساهمة عامَّة، والشَّركات محدودة المسؤوليَّة الَّتي يُمكِن أنْ تصبحَ مساهمة مقفلة، وأخيرًا الشَّركات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة الَّتي ستنضمُّ إلى سُوق فرعي خاصٍّ بها، فهذا التَّصنيف يعكس فَهْمًا عميقًا لطبيعة النَّسيج التِّجاري العُماني، ويؤكِّد أنَّ البورصة باتتْ تفكِّر كمنصَّة للتَّنمية الاقتصاديَّة، لا كمجرَّد سُوق للأسهم. لكنَّ التَّحدِّي الحقيقي لا يكمن في إطلاق السُّوق الجديد، أو الإعلان عن المسارات الثَّلاثة، بل في كيفيَّة تحفيز هذه الشَّركات فعليًّا على اتِّخاذ خطوة التَّحوُّل، فمُعْظم الشَّركات العائليَّة تنظر إلى السُّوق المالي بِعَيْن الرِّيبة، خوفًا من فقدان السَّيطرة أو انكشاف الحسابات أمام العامَّة، أمَّا الشَّركات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة، فغالبًا ما تفتقر للمعرفة الفنيَّة والإداريَّة الَّتي تمكِّنها من تلبية متطلبات الإدراج. وهنا تظهر أهميَّة ما أُعلن عَنْه في اللِّقاء بشأن الحوافز، والَّتي يَجِبُ أنْ تتجاوزَ الطَّابع الرَّمزي أو التَّشريعي، لِتصبحَ أدوات عمليَّة ملموسة، تشمل الإعفاءات، والدَّعم اللوجستي، والمرافقة القانونيَّة، وبرامج التَّأهيل الإداري، فنجاح أيِّ تحوُّل في هذا السِّياق لا يتمُّ بالقرارات وحدَها، بل ببناء الثِّقة مع الشَّركات، وتقديم نماذج ناجحة تشجِّع الآخرين على الحذو حذوَها. فالبورصة تحتاج أنْ تكُونَ حاضنة ذكيَّة، لا منصَّة معقَّدة تبتلع الشَّركات النَّاشئة دُونَ تمهيد أو تهيئة.
إنَّ جهود بورصة مسقط الَّتي بدأتْ تلتقط نبض الاقتصاد الجديد، وتحاول أنْ تُعِيدَ تعريف دَوْرها، يُشكِّل خطوة في الاتِّجاه الصَّحيح، فهنا تتحول البورصة من محطَّة لتداولِ الأسْهُم، إلى محرِّك استراتيجي في دعم التَّنوُّع الاقتصادي المنشود. وإنْ كانتْ رؤية «عُمان 2040» قد أكَّدتْ على بناء اقتصاد قائم على التَّنوُّع والكفاءة والاستدامة، فإنَّ تمكين الشَّركات الواعدة من دخول السُّوق المالي هو جزء لا يتجزأ من هذه الرُّؤية، وإذا ما اقترنتْ هذه الخطوات برؤية تنفيذيَّة جادَّة، وتشريعات مَرِنة، واستعداد حكومي حقيقي لتفكيكِ البيروقراطيَّة الَّتي تُطوِّق ريادة الأعمال، فإنَّ سلطنة عُمان تملك من المُقوِّمات ما يجعلها بيئة جاذبة لرأس المال المحلِّي والأجنبي على حدٍّ سواء، فالاقتصاد الَّذي يمنح الشَّركات الصَّغيرة فرصة النُّمو، هو الاقتصاد الَّذي يمتلك القدرة الحقيقيَّة على تجاوز الأزمات، وبناء مستقبل أكثر صلابة.. وفي هذا السِّياق، تُصبح البورصة ليسَتْ فقط أداة ماليَّة، بل منصَّة لبناء الثِّقة في اقتصادٍ يريد أنْ يتحررَ من قيوده القديمة، ويبدأ فصلًا جديدًا من النُّضج والتنافسيَّة.