جاءتْ زيارة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى الجزائر لِتؤسِّسَ لمرحلةٍ جديدة من العلاقات العُمانيَّة الجزائريَّة، ليس فقط على المستوى السِّياسي، بل امتدَّتْ لِتطولَ عُمق الشَّراكة الاقتصاديَّة، والبُعد الثَّقافي، وتوحيد الرُّؤى إزاء قضايا الإقليم والعالَم، فقَدْ حملتِ الزِّيارة طابعًا استثنائيًّا، فهي أوَّل زيارة «دَولةٍ» لعاهلٍ عُماني إلى الجزائر منذُ سنوات، وجاءت استجابةً لدعوةٍ رسميَّة من فخامة الرَّئيس عبد المجيد تبون، لِتُشكِّل محطَّة فارقة في تاريخ العلاقات بَيْنَ البلدَيْنِ، وقد عَبَّرَ الاستقبال الحافل الَّذي حَظِيَ به جلالتُه ـ أيَّده الله ـ عن المكانة الكبيرة الَّتي تحظى بها سلطنة عُمان لدَى القيادة الجزائريَّة، كما عكستِ المحادثات الَّتي جرتْ بَيْنَ القائدَيْنِ، سواء الثنائيَّة أو المُوَسَّعة مستوى الانسجام والتَّفاهم المُتبادل. ولعلَّ القرارات والاتفاقيَّات الَّتي اتُّخذتْ خلال هذه الزِّيارة تؤكِّد على عُمق الزِّيارة، حيثُ شهدتْ توقيع اتفاقيَّات ومذكّرات متنوِّعة تعكس إرادةً مشتركة لفتْحِ آفاقٍ أوسع من التَّعاون، يُلبِّي طموحات وتطلُّعات الشَّعبَيْنِ الشَّقيقَيْنِ العُماني والجزائري.
ولعلَّ أبرز نتائج الزِّيارة التَّاريخيَّة كان إنشاء الصُّندوق الجزائري العُماني للاستثمار، وهي خطوة استراتيجيَّة تعكسُ التَّحوُّل من مرحلة التَّعاون النَّظري إلى مرحلة التَّنفيذ الفعلي للمشاريع المشتركة، فهذا الصُّندوق الَّذي سيكُونُ أداةً لتمويلِ استثمارات متنوِّعة في مختلف القِطاعات، يحمل في طيَّاته رسالةً واضحة مفادها أنَّ مسقط والجزائر تعتزمان البناء على أرضيَّة اقتصاديَّة صلبة، تتجاوز الشِّعارات إلى المشاريع ذات العائد الملموس.. ففي ظلِّ المناخ الإقليمي المضطرب، يُصبح التَّعاون الاقتصادي بَيْنَ الدوَل المستقرَّة ذات الرُّؤى المتقاربة ضرورةً لا رفاهيَّة، كما تأتي هذه الخطوة لِتُعزِّزَ ما بدأه الجانبان في شراكات ناجحة سابقًا، مِثل مشروع الأسمدة والأمونياك في أرزيو، كما أنَّ التَّركيز على مشاريع جديدة في مجالات السيَّارات، والأدوية، والطَّاقة يؤكِّد أنَّ البلدَيْنِ يُراهنان على تنويع اقتصادهما وتحريره من الاعتماد المفرط على قِطاع المحروقات، وهذا التَّحوُّل يُعطي للزِّيارة بُعدًا اقتصاديًّا عميقًا، ويضع العلاقة العُمانيَّة الجزائريَّة على مسار استراتيجي بعيد المدَى.
ولم يكُنِ الجانب السِّياسي للزِّيارة أقلَّ ثقلًا من الجانب الاقتصادي، فقَدْ جاءتِ المحادثات الثُّنائيَّة لِتعكسَ تطابقًا كبيرًا في الرُّؤى وجهات النَّظر بَيْنَ سلطنة عُمان والجزائر إزاء القضايا الإقليميَّة والدّوليَّة، فقَدِ احتلَّتْ فلسطين وغزَّة قلْبَ المحادثات، في لحظةٍ إنسانيَّة مفصليَّة تشهد فيها الأُمَّة واحدة من أعتَى المجازر ضدَّ المَدَنيِّين الأبرياء، فقَدْ عَبَّرَ القائدان ـ حفظهُما الله ورعاهما ـ عن استنكارهما الشَّديد لجرائمِ الاحتلال «الإسرائيلي»، داعيَيْنِ إلى تحرُّك دولي عاجلٍ لوقفِ حرب الإبادة، وهي مواقف ليسَتْ بغريبة على دَولتَيْنِ لَطالَما وقفَتا بجانب الحقِّ العربي دُونَ تردُّد، كما نوَّه الجانب العُماني بجهود الجزائر في مجلس الأمن، في حين أشادتِ الجزائر بالدبلوماسيَّة العُمانيَّة الحكيمة، خصوصًا في أدوار الوساطة الهادئة بَيْنَ طهران وواشنطن، فهذه المواقف تؤكِّد أنَّ البلدَيْنِ لا يكتفيان بالمواقف الرمزيَّة، بل يسعيانِ إلى أداء دَوْر فاعل في هندسة التَّوازنات الإقليميَّة، والاحتكام إلى المبادئ الإنسانيَّة والشَّرعيَّة الدّوليَّة، في ظلِّ عالَم يتَّجه نَحْوَ الاستقطاب والانغلاق.
إنَّ أهمَّ ما يُميِّز زيارة جلالة السُّلطان هيثم ـ أعزَّه الله ـ إلى الجزائر أنَّها لم تقتصر على النُّخب السِّياسيَّة والملفَّات الاقتصاديَّة، بل شملتْ أيضًا بُعدًا ثقافيًّا وشَعبيًّا واضحًا، تجلَّى في التَّقدير المتبادل للرَّوابط التَّاريخيَّة والإنسانيَّة الَّتي تجمع الشَّعبَيْنِ، من خلال الاتفاقيَّات والتَّفاهمات الَّتي شملتْ مجالات التَّعليم، والزِّراعة، والصِّناعة الدوائيَّة، وحماية النَّباتات، وهو ما يعكس رغبة البلدَيْنِ في بناء منظومة تعاون شاملة تمسُّ حياة المواطن في كلا البلدَيْنِ، كما أنَّ تبادل المشاركة كـ(ضَيف شرَف) في معارض اقتصاديَّة وزراعيَّة كُبرى ليس مجاملةً، وإنَّما رسالة استراتيجيَّة تؤكِّد العزم على تعزيز الحضور الثَّقافي والحضاري، وخلقِ روابط مباشرة بَيْنَ المُجتمعات، وما يُعزِّز هذا التَّوَجُّه هو الإشادة بالدَّوْر الَّذي تَقُومُ به الجالية الجزائريَّة في عُمان، والَّتي تُعَدُّ جسرًا حيًّا للتَّواصُل الثَّقافي والمعرفي بَيْنَ البلدَيْنِ.. وبهذا المعنى فإنَّ الزِّيارة تكتسبُ بُعدًا حضاريًّا بامتياز، وتُسهم في صياغة نموذج متكامل للعلاقات الثنائيَّة، يَقُومُ على الاحترام، والمصالح المشتركة، والتَّكامل الإنساني.