الأربعاء 07 مايو 2025 م - 9 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

دور المتحدث الإعلامي للمؤسسات فـي العصر الرقمي

دور المتحدث الإعلامي للمؤسسات فـي العصر الرقمي
الاثنين - 05 مايو 2025 12:30 م

المنتصر بن زهران الرقيشي

360

يقول الشَّاعر: جراحات السنان لها التئام # ولا يلتام ما جرح اللسان.

الكلمة سلاح ذو حدَّين، والعصر الرَّقمي الحالي وسرعة التَّفاعل من قِبل الجمهور يفرض عَلَيْنا أن نعيَ البيت الشِّعري جيِّدًا ونحسب ألف حساب لِمَا ندوِّنه، وأخصُّ هنا بالقول ممثِّلي المؤسَّسات أو لِنَقُل «المتحدِّثين أو النَّاطقين الإعلاميِّين»؛ باعتبارهم الصَّوت الرَّسمي لتلك المؤسَّسة والحارس الأوَّل لِسُمعتها. لكن ماذا يحدُث عِندَما يتحول هذا الحارس إلى مصدر للتَّشويش بدلًا من كونه جسرًا للتَّواصُل؟

عِندَما يُخفق المتحدِّث أو النَّاطق الإعـلامي، أيًّا كانتْ صِفَتُه الرَّسميَّة، فإنَّ المؤسَّسة تخسر توازنها الإعلامي واحترام الجمهور؛ فالمتحدِّث المندفع لا يضرُّ نَفْسه فحسب، بل يجلب الضَّرر للمؤسَّسة بأكملها، وكُلُّ كلمة تنبثق عن المتحدِّث أو النَّاطق الإعلامي تُمثِّل رهانًا على وعي الجمهور؛ فإمَّا أن تُعزِّزَ الثِّقة، أو تهزَّ الصُّورة. فهل يعي الجميع هذا الوزن؟

في قَلبِ هذه المعضلة تقف ثلاث إشكاليَّات: الأُولى هي الخَلْط بَيْنَ الرَّأي الشَّخصي والموقف المؤسَّسي، حيثُ ينسَى بعض المتحدِّثين أو النَّاطقين أنَّ حسابهم الرَّسمي ليس منصَّة للتَّعبير عن آرائهم الخاصَّة. الثَّانية تتمثل في الفجوة بَيْنَ لُغة المؤسَّسة ولُغة الجمهور، فما يبدو مناسبًا في القاعة المكيّفة قد يكُونُ كارثيًّا في ساحة التَّواصل الاجتماعي. أمَّا الثَّالثة فهي الاعتقاد بأنَّ كثرة النَّشر تعني جودة التَّواصُل، بِيْنَما الحقُّ أنَّ الكلمة الواحدة في مكانها قد تُغْني عن ألفِ كلمةٍ غير موفَّقة متناسيًا أو غافلًا «رُبَّ كلمةٍ لا يُلقي لها بالًا، تهوي به في النَّار سبعين خريفًا».

يَجِبُ أن يدركَ أيُّ متحدِّث أو ناطق إعلامي بأنَّه ليس مجرَّد ناقل للرَّسائل، بل هو مهندس للعلاقات وصانع للثِّقة، وهذا يتطلب مِنْه فهمًا عميقًا لنظريَّات الاتِّصال الحديثة، وإلمامًا بتحليل البيانات، وقدرة على قراءة المشاعر الجمعيَّة والأهم «مراعاة الجمهور المستهدف»، كما يتطلب من المؤسَّسات تَبنِّي استراتيجيَّات اتِّصال مَرِنة تعتمد على ثلاثة مبادئ أساسيَّة: الشَّفافيَّة في القول، السُّرعة في الاستجابة، وفي مقدِّمة ذلك كُلِّه «الاحترام في الخِطاب» (وكم أتمنَّى أن يضعَ المُحرِّر تحتها خطًّا).

إسقاطًا لذلك على النَّظريَّات، دعوني أوضح الآتي: تؤكِّد الأبحاث أنَّ العديد من الأزمات المؤسَّسيَّة تهتزُّ بسبب فشلٍ في عمليَّة الاتِّصال، وهذه المعلومة تدعمها نظريَّة «Shannon and Weaver» الَّتي تبرز أنَّ أيَّ تشويش في قناة الاتِّصال يؤدِّي لِتَشويهِ الرِّسالة. لذا، فإنَّ وظيفة المتحدِّث أو النَّاطق الإعلامي، أو غير ذلك، لا تقتصر على كونه ناقلًا للمعلومات، بل يشمل ذلك صناعته للمعنى والمحتوى، وأن يحوِّلَ السِّياسات الجامدة إلى رسائل نابضة بلُغة تُرضي كافَّة شرائح الجمهور، فالجمهور يتَّخذ قراراته بناءً على تصوُّراته عن نزاهة المؤسَّسات وقِيَمها. وهذا يُعَدُّ دليلًا على الأهميَّة الاستراتيجيَّة للاتِّصال المؤسَّسي الفعَّال، بالإضافة إلى ذلك، تظهر أهميَّة استخدام نظريَّة «Uses and Gratifications»، الَّتي توضح أنَّ الجمهور يبحث عمَّا يُلبِّي احتياجاته من الإعلام، ما يجعل المتحدِّث أو النَّاطق الإعلامي مسؤولًا عن صياغة رسائل تعكس تلك الحاجات.

على سبيل المثال: في مارس 2021م، أثار نائب رئيس قِسم الاتِّصالات في شركة «إير آسيا (AirAsia X) عاصفة إعلاميَّة عِندَما غرَّد من حسابه الرَّسمي: «المسافرون الَّذين يشتكون من سياسة الإلغاء يَجِبُ أن يبحثوا عن شركات أخرى. نحنُ لَسْنا مُلزَمِين برعاية كُلِّ مَن لا يقدِّر الظُّروف الاستثنائيَّة»، وكانتْ نتيجة هذه التَّغريدة كارثيَّة حيثُ وصلتْ تداعياتها إلى خسائر باهظة نتيجة هجوم قاسٍ ومبرَّر من قِبل الجمهور المُتلقِّي، واضطرتِ الشَّركة إلى تقديم اعتذار رسمي خلال أقلَّ من (24) ساعةً، فضلًا عن إيقاف المسؤول فَورًا، وكُلُّ ذلك بسبب تغريدة غلَّب فيها «النَّبرة المتعالية» على «النَّبرة العمليَّة» والموقف الشَّخصي على الموقف المؤسَّسي.

عِندَما يتحوَّل المتحدِّث أو النَّاطق إلى فردٍ يتحدَّث من «بُرجه العالي»، لا كناقلٍ أمِين أو مُترجِم ذكي لرسالة المؤسَّسة، بل كمُحتكِرٍ لآرائه، ومصدرٍ للتَّشويش بدلًا من التَّوضيح، فالخطورة لا تكمن في شخصه، وإنَّما في المنصب الَّذي يشغله، فكُلُّ تغريدة أو تصريح يصدر عَنْه يُقرأ على أنَّه رأي المؤسَّسة، وهو ما ينتج شرخًا عميقًا نتيجة للخَلْطِ بَيْنَ صورته وصورة المؤسَّسة، ممَّا يجعل اللُّغة المستعلية أو النَّبرة الإقصائيَّة تَقُودُ إلى مشاكل مهنيَّة ومؤسَّسيَّة.

المتحدِّث أو النَّاطق الإعلامي لا يخاطب النُّخبة فقط، بل جمهور واسع يُمثِّل شريحةً متنوِّعة من المُجتمع، ومِنْهم المثقَّف والمتعلِّم والنَّاقم والباحث عن الأخطاء والمُتصيِّد، لذا إذا لم يُراعِ مستوى الوعي الجمعي والاختلافات الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة في خِطابه سيُعرِّض المؤسَّسة لفقدانِ ثقة النَّاس، بل سيَكُونُ مصدرًا للهجوم والتندُّر عَلَيْه، وتتوسَّع المُشْكلة الأعمق في الخَلْط بَيْنَ الحسابات الشَّخصيَّة والحضور المؤسَّسي، حيثُ يُمكِن أنْ تؤدِّيَ ممارسات المتحدِّث وهواه الخِطابي الشَّخصي إلى الانزلاق في تأويلات غير مرغوبة، حيثُ لا تُقاس كفاءة المتحدِّث أو النَّاطق بعددِ التَّغريدات أو المُتابعِين، بل بمدَى حفاظِه على كرامة الخِطاب وعُمق تأثيره في الرَّأي العامِّ، وتواضعِه في خِطاب الجمهور وانتقائه للُّغة؛ فـ»اللُّغة العربيَّة متَّسعة».

في الختام، إنَّ الاتِّصال الفعَّال لم يَعُدْ ترفًا، بل هو مسألة بقاء في عالَم لم يَعُدْ يغفر الأخطاء الاتِّصاليَّة. والسُّؤال الَّذي يَجِبُ أن تطرحَه كُلُّ مؤسَّسة على نَفْسِها: ليس «هل نستطيع تحمُّل تكاليف متحدِّث إعلامي جيِّد؟» بل «هل نستطيع تحمُّل تكاليف عدم وجود متحدِّث إعلامي جيِّد؟» ففي عصر السُّرعة الرَّقميَّة، قد تكُونُ الكلمة هي كُلُّ ما يبقَى من سُمعة عمرها عُقود.

المنتصر بن زهران الرقيشي

كاتب عماني – الاتصالات الدولية والعلوم السياســـــية

مدرب متعاون في تنمية مهارات المدربين «TOT»

@mumtaserzr