الأربعاء 07 مايو 2025 م - 9 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

التقدم فـي العمر النشط : من الرعاية إلى التمكين

التقدم فـي العمر النشط : من الرعاية إلى التمكين
الاثنين - 05 مايو 2025 12:23 م

د. يوسف بن علي الملَّا

20


في أحَد المراكز الصحيَّة، جلستُ إلى جوار رجُل تجاوز السَّبعين من عمره، يبتسم بثقة، ويروي كيف يمشي كُلَّ صباح خمسة كيلومترات، ويشارك في مجلس الحيِّ، ويتابع قراءة الصُّحف والكتُب الدِّينيَّة بانتظام. قال لي: أشعُر أنَّني في الخمسين فقط... فسألته ما السِّر؟ فذكَر لي قائلًا: لا أستسلم للعمر أبدًا! سبحان الله، هذا النّموذج لا يزال نادرًا، لكنَّه يعكس مستقبلًا ينبغي أن نسعَى جميعًا لِتَحقيقِه في سلطنة عُمان، حيثُ تُشير البيانات السكَّانيَّة لعام 2024م إلى أنَّ نسبةَ مَن هُمْ فوق الستِّين عامًا تجاوزتْ (6.1) بالمئة، ومن المتوقَّع أن تصلَ إلى خمسة عشر بالمئة بحلول عام 2040م، وهي زيادة ـ إن صحَّ لي القول تذكيرًا ـ تُنذر بتحدِّيات مُتعدِّدة في النَّواحي الصحيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، ما يستوجب التَّحضير الجادَّ لرعايةِ هذه الفئة الغالية في سلطنة عُمان.

بطبيعة الحال، تقدُّم العمر لا يعني بالضَّرورة التَّدهوُر والاعتماد، بل يُمكِن أن يكُونَ بوَّابة لمرحلةٍ جديدة مليئة بالخبرة والنُّضج والإنجاز، لكن هذا يعتمد على مدى جاهزيَّة المُجتمع والنِّظام الصحِّي لدعمِ (الشَّيخوخة النَّشطة) الَّتي تعني الحفاظ على الصحَّة البدنيَّة والعقليَّة والاجتماعيَّة لكبار السِّن لأطول فترة ممكنة. وهنا يَجِبُ أن نتأملَ الواقع الحالي والَّذي يُشير إلى أنَّ قرابةَ نصفِ كبار السِّن في السَّلطنة يعانون من أمراض مُزمنة مِثل السكَّري وارتفاع ضغط الدَّم، فضلًا عن ارتفاع معدَّلات هشاشة العظام والتَّدهوُر النَّفْسي، كما أنَّ بعض الخدمات الصحيَّة المقدَّمة تظلُّ مركَّزة على العلاج دُونَ استثمار كافٍ في الوقاية أو إعادة التَّأهيل.

ومع ذلك، لا يُمكِن إنكار الجهود المتقدِّمة الَّتي تبذلها سلطنة عُمان، حيثُ أطلقتْ وزارة الصحَّة البرنامج الوطني لرعاية المُسنِّين، وهو نموذج يحتذى به في المنطقة. حيثُ يقدِّم هذا البرنامج خدمات وفحوصات دَوْريَّة وتقييمات لوظائف الجسم الحيويَّة، ويشمل زيارات منزليَّة من قِبل فِرق طبيَّة مؤهَّلة، خصوصًا لكبار السِّن غير القادرين على الحضور إلى المراكز الصحيَّة. كما أنَّ وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة أنشأتْ برامج نَوعيَّة مثل (وقار) لتعزيزِ التَّكافل بَيْنَ المؤسَّسات والمُجتمع لرعاية كبار السِّن، وأتاحتْ للأُسر العُمانيَّة التَّسجيل كأُسرٍ بديلة لرعاية المُسنِّين المُحتاجِين في بيئة أُسريَّة آمِنة. وإضافةً إلى ذلك، تُنظِّم الوزارة العمل في مراكز الرِّعاية النَّهاريَّة لكبار السِّن، مع معايير خصوصًا لضمانِ الكرامة الإنسانيَّة والتَّقدير وجودة الرِّعاية.

ومن هنا تظهر تجارب الدوَل المتقدِّمة أنَّ الاستثمار في التَّقدُّم بالعمر (الشَّيخوخة النَّشطة) ليس فقط واجبًا أخلاقيًّا، بل خيار اقتصادي ذكي. فعلى سبيل المثال في اليابان، ورغم أنَّ أكثر من رُبع السكَّان فوق الخامسة والستِّين عامًا، إلَّا أنَّ المُجتمع هناك صمَّم بيئة تراعي احتياجات المُسن وتُبقيه منتجًا ومشاركًا. من برامج اللّياقة، ومراكز الرِّعاية اليوميَّة، والتكنولوجيا المُخصَّصة لَهُم، وحتَّى طُرق البناء والنَّقل، كُلُّها تُراعي كبار السِّن. وبحسب دراسة نُشرتْ في عام 2023م، فإنَّ تطبيق السِّياسات الوقائيَّة والمتكاملة لكبار السِّن أدَّى إلى انخفاض نفقات العلاج بنسبة ثلاثة وعشرين في المئة خلال عشر سنوات، مع تحسُّن واضح في مؤشِّرات جودة الحياة. وهنا في سلطنة عُمان، ورغم هذه المبادرات المشجِّعة، إلَّا أنَّ الرُّؤيةَ المستقبليَّة تتطلب تعزيز تكامل الخدمات بَيْنَ وزارة الصحَّة والتَّنمية الاجتماعيَّة، وتوسيع مظلَّة الخدمات في جميع المحافظات، مع دمج كبار السِّن في الحياة الثَّقافيَّة والاقتصاديَّة، من خلال نوادٍ صحيَّة وثقافيَّة، وتوفير وسائل نقل ومَرافق عامَّة تُراعي احتياجاتهم.

ختامًا، التَّقدُّم بالسِّن ليسَتِ النِّهاية، بل امتداد لحياةٍ حافلة بالعطاء. وفي سلطنة عُمان، حيثُ يحظَى كبار السِّن بمكانة دِينيَّة وثقافيَّة كبيرة، يُمكِن أن تكُونَ هذه المرحلة من العمر مصدر إشعاع وتوازن للمُجتمع، لا عبئًا عَلَيْه. وعَلَيْه، فإنَّ الاستثمار في التَّقدُّم بالسِّن والنَّشاط هو استثمار في القِيَم، وفي الخبرة، وفي بناء مُجتمع يحترم جميع أفراده بلا استثناء. ولعلَّ أجملَ ما نختم به هذا المقال هو أن نسألَ أنْفُسَنا: ما الصُّورة الَّتي نُريدُها لمستقبلِنا نحن حين نبلغ هذا العمر؟ فإنْ كنَّا نُريدُ الاحترام، والدَّعم، والصحَّة، فلْنَعملِ اليوم على توفيرها لِمَن سبقونا. فهذه المرحلة ليسَتِ انطفاء، بل لحظة اكتمال وتجَلٍّ لصفاء الرُّوح ورجاحة العقل، وكما قال أحدهم:

إذا اكتهلَ المرءُ استقامتْ خِصالُهُ

وصارتْ له الأيَّام زادًا وعُدَّهْ

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]