لم تَعُدِ الأخبار تحتاج إلى وسيط تقليدي كَيْ تصلَ إلى النَّاس. الوسائل تعدَّدتْ، والرَّسائل تلاحقتْ، لكنَّ المسؤوليَّة بقيَتْ أصعب: كيف نمنح الحقيقة فرصة أن تُسمعَ وسط هذا الضَّجيج؟ أصبحتْ وسائل الإعلام ـ من صحف وإذاعة وتلفزيون ومنصَّات رقميَّة ـ أدوات رئيسة لنقلِ المعلومة إلى جمهور واسع. لكنَّ دَوْرَها لم يَعُدْ يقتصر على التَّغطية، بل امتدَّ إلى تشكيل وعي النَّاس تجاه ما يحدُث حَوْلَهم، وتأطير النِّقاشات العامَّة. وهذا الدَّوْر يجعل مسؤوليَّة المصداقيَّة والدقَّة أكبر من أيِّ وقت مضى.
المؤسَّسات الإعلاميَّة، ومَن يعمل فيها، يتحملون واجبًا لا ينفصل عن أخلاقيَّات المهنة: احترام الحقيقة، والتَّمييز بَيْنَ المعلومة والرَّأي، والابتعاد عن التَّحيُّز أو الإثارة غير المبرَّرة. الإعلام الَّذي يؤدِّي وظيفته بمهنيَّة يُسهم في بناء مُجتمع أكثر وعيًا واتِّزانًا، ويُعزِّز الثِّقة بَيْنَ الأفراد ومحيطهم.
للكلمة أثَر يتجاوز لحظة نشْرِها. قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنَّها تمتدُّ عميقًا حين تلامس الوعي العامَّ. في كثير من الأحيان، يكُونُ عنوان خبر كافيًا لإثارة حالة من الجدل، أو خلقِ انطباعٍ قد يصعبُ تصحيحه لاحقًا، حتَّى وإن تضمَّن المحتوى نَفْسه تفنيدًا أو توضيحًا. وكُلَّما كانتِ الوسيلة الإعلاميَّة أوسع انتشارًا، زادتْ مسؤوليَّتها في اختيار كلماتها وتقدير أثَرها البعيد.
إنَّ بناء المُجتمعات لا يعتمد فقط على القوانين، بل يحتاج أيضًا إلى خِطاب إعلامي نزيه، يحترم عقل المتلقِّي، ويمنحه أدوات التَّفكير لا أدوات الانفعال. الإعلام، حين يلتزم بحدوده الأخلاقيَّة، يصبح شريكًا في ترسيخ قِيَم الوعي والمسؤوليَّة.
في المقابل، لم يَعُدِ المتلقِّي طرفًا سلبيًّا. أصبح جزءًا من منظومة الإعلام، يشارك بالرَّأي والنَّشر وإعادة التَّدوير. ومن هنا، تتضاعف الحاجة إلى نشرِ الوعي الإعلامي بَيْنَ الأفراد، بحيثُ لا يكُونُ دَوْرهم مقصورًا على استقبال المعلومة، بل يمتدُّ إلى التَّحقُّق مِنْها وفَهْم سياقها.
مهارات التَّحقُّق من المصادر، والاطِّلاع على أكثر من زاوية، لم تَعُدْ حكرًا على المُتخصِّصين، بل أصبحتْ ضرورةً لِكُلِّ مَن يتعامل مع سَيْل المعلومات اليومي. المُتلقِّي الواعي لا يكتفي بردَّة الفعل، بل يبحث عن الخلفيَّات، ويدرك أنَّ الحقيقة لا تظهر دائمًا في العناوين الأُولى.
ومع هذه المتغيِّرات، لم يَعُدِ الخطر يقتصر على الخبر المغلوط أو التَّحليل الموَجَّه، بل اتَّسعتْ رقعة التَّحدِّيات. فاليوم، لم تَعُدْ مصادر التَّضليل محصورةً في وسائط تقليديَّة، بل دخلتْ في المشهد تقنيَّات أكثر تعقيدًا، كالذَّكاء الاصطناعي الَّذي ينتج محتويات مزيَّفة بدقَّة بالغة. كما أنَّ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي وفَّرت بيئة تسمح بانتشار الأخبار الكاذبة بوتيرة أسرع من قدرة أيِّ جهةٍ على التَّصحيح أو التَّصدِّي.
لذلك، تقع مسؤوليَّة إضافيَّة على وسائل الإعلام والمؤسَّسات التَّعليميَّة لإرساء ثقافة التَّثبُّت والتَّحقُّق، وتطوير أدوات فنيَّة تُواكب هذا التَّسارع. كما أنَّ إدماج الذَّكاء الاصطناعي لخدمةِ التَّحقُّق من الأخبار، بدل تركِه أداةً بِيَدِ المُضلِّلين، أصبح ضرورة مُلحَّةً. تعليم الأجيال الجديدة كيف يتعاملون مع هذه التَّحدِّيات باتَ واجبًا مشتركًا بَيْنَ الإعلام والمُجتمع.
أمَّا على مستوى السِّياسات العامَّة، فهناك حاجة ماسَّة إلى تشريعات واضحة تُنظِّم المحتوى الرَّقمي وتحمي الجمهور دُونَ تقييد حُريَّة التَّعبير. وفي عالَمنا العربي، تزداد أهميَّة هذه التَّشريعات في ظلِّ التَّحوُّلات الرَّقميَّة المتسارعة، وضرورة صون الفضاء الإعلامي من الفوضى دُونَ المساس بحقِّ النَّاس في التَّعبير. فالموازنة الدَّقيقة بَيْنَ حُريَّة الرَّأي ومسؤوليَّة النَّشر أصبحتْ أحَد أهمِّ أُسُس بناء مُجتمع واعٍ ومسؤول. فليس الغرض إسكات الأصوات، بل حماية الحقيقة من الضَّياع وسط الضَّجيج.
ما يحتاجه المشهد الإعلامي ليس مزيدًا من التَّسارع أو التَّشويق، بل إعلام يحترم عقل جمهوره، ويمنحه الأدوات اللازمة لِفَهْمِ ما يَدُور حَوْلَه. إعلام لا يكتفي بتغطية الأحداث، بل يطرح الأسئلة الجوهريَّة الَّتي تُحفِّز التَّفكير وتدفع للنِّقاش.
ومع انقضاء اليوم العالَمي لحُريَّة الصِّحافة في الثَّالث من مايو، تظلُّ الأسئلة قائمة: كيف نستخدم الكلمة؟ وإلى أين نَقُودُ بها مُجتمعاتنا؟ فالكلمة، حين تفقد صدقها، تفقد قدرتها على التَّغيير. وما يُكتَب اليوم، قد يبقَى أثَرُه عالقًا في الذَّاكرة الجماعيَّة زمنًا طويلًا.
نبيلة رجب
كاتبة من البحرين