حين تقول وكالة الأونروا إنَّ الوضعَ الإنساني في غزَّة (يفوق الخيال)، فإنَّنا لا نقرأ تصريحًا دبلوماسيًّا باردًا، بل صرخة مدوِّية تعكس فشلًا ذريعًا في المنظومة الدّوليَّة الَّتي تأسَّستْ لحماية الإنسان من مِثل هذه الكوارث.. ففي ظلِّ حصارٍ ممتدٍّ وانعدامٍ شِبه كامل للإمدادات الأساسيَّة، يبدو أنَّ المُجتمع الدّولي لم يفقدْ فقط أدوات الضَّغط، بل فقَدَ شجاعته الأخلاقيَّة، حيثُ تتفرج الأُمم المُتَّحدة على أكثر من مليونَي إنسان يُسحقون جوعًا وعطشًا ومرضًا، ثمَّ تكتفي بإصدار منشورات على منصَّات التَّواصُل الاجتماعي، إنَّه أمْر مُخجل يتجاوز حدود العجز إلى التَّواطُؤ غير المباشر، فمِن المؤلِم أنَّ هذا السَّقفَ من القسوة لم يحرِّكْ حتَّى آليَّات تدخُّل طارئة، كالَّتي تُستخدم في مناطق الكوارث، وذلك رغم أنَّ غزَّة تخطَّتْ حدود الكارثة، وأضحتْ مجزرةً هندسيَّة مُمنهجة، تُنفِّذها دَولة الاحتلال الصهيونيّ، بتخطيطٍ وبصَمْتٍ دولي مُريب، يجعل من شعارات الأُمم المُتَّحدة عن حقوق الإنسان مجرَّد نُكتة سوداء في وجْهِ الإنسانيَّة.
ولعلَّ تصريحات الأمين العامِّ للأُمم المُتَّحدة أنطونيو جوتيريش، الَّتي تُظهر الوضعَ الإنساني في غزَّة، باعتباره يتدهور نَحْوَ الهاوية، أبرز دليل على تلك المزحة السَّمجة.. فرغم أنَّها اعتراف متأخِّر بواقع كارثي كان من المفترض أنْ يستفزَّ آليَّات التَّدخُّل الفَوري منذُ بداياته، إلَّا أنَّها تعكس مدَى العجز أمام الصَّلف الصُّهيونيِّ. أمَّا تصريحات أنييس كالامار، الأمينة العامَّة لمنظَّمة العَفو الدّوليَّة، فقَدْ كانتْ أكثر جرأةً حين وصَفتْ ما يجري بأنَّه (إبادة جماعيَّة على مرأى ومسمع العالَم)، لكن حتَّى هذا التَّشخيص الصَّادم ظلَّ بلا أيِّ ترجمةٍ عمليَّة تَليق بحجمِه. فقَدْ أصبح الخِطاب الحقوقي العالَمي مجرَّد فولكلور لُغوي يُعِيدُ إنتاج نَفْسِه في دوائر مُغلقة، دُونَ أنْ يُترجمَ إلى أدوات ردع أو محاسبة، والمُثير للسُّخرية أنَّ المنظَّمات الأُمميَّة تعرفُ أسماء المسؤولين «الإسرائيليِّين» المُتورِّطِين وتملك الأدلَّة، لكنَّها تكتفي ببيانات صحفيَّة، فهذه الفجوة بَيْنَ المعرفة والفعل، بَيْنَ الإدراك والعجز، ليسَتْ فقط عارًا أخلاقيًّا، بل انهيار مؤسَّساتيّ، تدفع غزَّة ثَمَنَه دمًا وجوعًا، فيما تتآكل مصداقيَّة النِّظام الدّولي يومًا بعد آخر.
إنَّ رفْضَ الأُمم المُتَّحدة لمقترحِ دَولة الاحتلال بفرض وصايتها على إدخال المساعدات إلى غزَّة يُعرِّي نيَّات الاحتلال بشكلٍ فاضح، ذلك أنَّ المُخطَّط الصُّهيونيَّ ليس سوى توظيف للمساعدات كسلاحٍ سياسي، عَبْرَ التَّحكُّم في المواد الإنسانيَّة وجعْلِها أداةً للضَّغط والإذلال، تريد دَولة الاحتلال المارقة أنْ تُجبرَ الجَوْعَى على الزَّحف إلى مناطق عسكريَّة، في مشهدٍ يُعِيدُ للأذهان حصارات القرون الوسطى، لكنَّ هذه المرَّة برعاية تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين.. وإنْ كانتِ الأُمم المُتَّحدة قَدْ رفضَتْ رسميًّا هذا المقترح، فإنَّ عدم وجود بدائل عمليَّة يعني أنَّ الفلسطينيِّين ما زالوا أسْرَى لنزوات الاحتلال. إذًا هي لُعبة إذلال جماعي، فإمَّا أنْ تجوعَ أو تموتَ على الطَّريق، وغياب أيِّ ضغطٍ دولي فعَّال لفرضِ دخولِ المساعدات دُونَ شروط يعكس استسلامًا ضمنيًّا لفرضيَّات الاحتلال، ويؤسِّس لسابقةٍ خطيرة، مفادها أنَّ الجوعَ يُمكِن أنْ يكُونَ سياسة دَولة معترف بها، وأنَّ العقاب الجماعي يُمكِن أنْ يُمرَّرَ تحت زعم (الظُّروف الأمنيَّة).
إنَّ تحذيرات منظَّمة الصحَّة العالَميَّة بأنَّ غزَّةَ قريبةٌ جدًّا من الهاوية، ليسَتْ مجازًا، بل توصيفٌ لحالةٍ ميدانيَّة مأساويَّة تُفكَّك فيها مُقوِّمات الحياة جزءًا جزءًا.. فالمستشفيات الَّتي أصبحتْ مقابر، والنَّقص الحادُّ في المستلزمات الطبيَّة، وعمليَّات البَتْرِ الَّتي تُجرَى بِدُونِ مُخدِّر، كُلُّ ذلك لا يُعبِّر فقط عن كارثة صحيَّة، بل عن انهيارٍ شاملٍ في البنية الإنسانيَّة للقِطاع، فقَدْ وصفَتْ مارجريت هاريس، المُتحدِّثة باِسْمِ المنظَّمة، الوضعَ بوضوحٍ «لا ماء، لا دواء، لا غذاء، ولا حتَّى أمَل» لكنَّها أيضًا، مِثل بقيَّة مسؤولي الأُمم المُتَّحدة، مُتورِّطة في لُعبة التَّوثيق دُونَ تَدخُّل. فلدَى الصحَّة العالَميَّة شاحنات مليئة بالمساعدات، لكنَّها متوقِّفة على الحدود، وهو ما نراه عجزًا دوليًّا لا يُمكِن تبريره، فقَدْ أصبحتِ الهيئات الصحيَّة تُمارس دَوْر الرَّقيب اليائس، تُسجِّل الأرقام، تَصِفُ الأعراض، لكنَّها عاجزةٌ عن وصفِ العلاج؛ لأنَّ القرارَ السِّياسي معلقٌ، وموت الغزيِّين لم يَعُدْ حدثًا طارئًا، بل حالة مُزمِنة، يتعايش معها العالَم ببرودٍ مُروِّع، وكأنَّنا نشهد على موت حضارة لا موت شَعب فقط.