أثار نشْرُ تسجيل صوتي لمحادثةٍ بَيْنَ الرَّئيسيْنِ الرَّاحلَيْنِ المصري جمال عبدالناصر والليبي معمر القذافي جدلًا واسعًا، خصوصًا بَيْنَ معسكرَيْنِ عنيدَيْنِ هما لمعسكرٍ ما يُسمَّى التيَّار النَّاصري والمعسكر المناهض لهذا التيَّار، خصوصًا وأنَّ هذا التَّسجيل به ما ينسفُ الكثير من الأفكار الَّتي يُنادي بها التيَّار الأوَّل والَّتي يرونها الحلَّ النَّاجع في كُلِّ العصور، فيما يرَى المناهضون أنَّ هذا التَّسجيل برهان على خطأ وكارثيَّة هذه الأفكار.
وبعيدًا عن محتوى التَّسجيل الَّذي ثبتَ أنَّه حقيقي بتأكيد المهندس عبدالحكيم عبدالناصر نجل الزَّعيم الرَّاحل، كما أنَّه هو وغيره من تسجيلات ومحاضر اجتماعات الرَّئيس الأسبق مع مجلس الوزراء والاتِّحاد الاشتراكي وعدد من الزُّعماء موجودة ومتاحة على موقع مكتبة الإسكندريَّة.. إلَّا أنَّ هذا التَّسجيل الَّذي يَعُودُ إلى شَهْر أغسطس من عام 1970، والَّذي جاء في أعقاب موافقة الرَّئيس جمال عبدالناصر على مبادرة روجرز الَّتي قدَّمتها الولايات المتحدة الأميركية عن طريق وزير خارجيَّتها وليام روجرز لإيقاف النَّار لِمُدَّة (90) يومًا بَيْنَ مصر و»إسرائيل» بعد حرب الاستنزاف الَّتي أعقبتْ هزيمة 1967 ، في التسجيل.. يشكو الزَّعيم الرَّاحل من مزايدات العديد من الزُّعماء العرب وقتها والشِّعارات الَّتي يرفعونها ضدَّ ما يصفونه بالاستسلام والانهزاميَّة. وهنا يتجلَّى تمسُّك الزَّعيم الرَّاحل بالواقعيَّة السِّياسيَّة، وانتقاده لِمَا يُمكِن وصْفُه بالعنتريَّات والشِّعارات الحنجوريَّة وضرورة فَهْم اللَّحظة التَّاريخيَّة الَّتي تتطلب التَّعامل مع معطيات اقتصاديَّة وعسكريَّة. وبعيدًا عن الصِّراع القائم حَوْلَ هذا التَّسجيل بَيْنَ مَن يقول إنَّ الزَّعيم جمال عبدالناصر تخلَّى عن الأفكار الَّتي أوصلتْ إلى هزيمة 1967 أو مَن يقول إنَّها مناورة سياسيَّة يسعَى من خلالها إلى إعادة بناء الجيش المصري استعدادًا لمعركةِ تحرير الأرض، والَّتي بالمناسبة حصرَها الرَّئيس الرَّاحل في استرداد الأرض المُحتلَّة بعد عام 1967 ـ وليس الكُلّ أو لا شيء كما كان يُنادي البعض ـ بمَن فيهم القذافي نَفْسه في هذا التَّسجيل حينما قال ما مفادُه إنَّنا لا نستحقُّ الحياة إذا لم نقاتلْ ـ فإنَّ ما وردَ في هذا التَّسجيل وغيره من التَّسجيلات والوثائق المتاحة عن هذه الفترة تُشكِّل دعوةً للتَّفكير في مآلات السَّير وراء الشِّعارات أو المواقف غير المحسوب عواقبها، والأهم تجنُّب المزايدات، فالرَّئيس الرَّاحل قالها ببساطة «مَن أراد أن يحاربَ فليتفضل».
هيثم العايدي
كاتب صحفي مصري