السبت 13 ديسمبر 2025 م - 22 جمادى الآخرة 1447 هـ

استشراف المستقبل

استشراف المستقبل
السبت - 03 مايو 2025 12:48 م

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

30


الحاضر بوَّابة عبور لحظيَّة بَيْنَ ماضٍ انقضى بمنجزاته وبإخفاقاته ومستقبل آتٍ بآماله، وتخوُّفاته. يُقدِّم الماضي للمستقبل دروسًا وتجارب وخبرات ويسنده بإرثٍ حضاري ومنجزات تكُونُ قاعدة متينة ومرتكزات ثابتة للانطلاق إلى آفاق أرحب ومنجزات أكبر. النَّظر إلى الماضي والتَّمعن في الحاضر يُمكن استشراف المستقبل أحداثًا وأحوالًا وتطوُّرات ويُمكِّن من رسم احتمالات وسيناريوهات تكُونُ مدخلات لخططٍ مستقبليَّة تحقِّق غايات مستهدفة وتدير تحدِّيات متوقَّعة. إنَّ من الفطنة والكياسة التَّهيؤ للمستقبل والمبادرة إلى الإعداد له لتحقيق فرصه وللتَّعامل مع تحدِّياته. فلا مجال للتَّقاعس والرُّكون وإلا فإنَّ قطار التقدُّم وقوارب النَّجاة من أمواج الحضارة المعاصرة المتلاطمة ستغادر وتترك خلْفَها كُلَّ مَن تباطأ وتواكَل. الاستعداد للمستقبل يتعدَّى الاهتمام بالتَّطوُّر التقني وتملُّك معطياته فقط إلى بناء منظومات متكاملة وقدرات واسعة وجدارات كمّيَّة (اقتباسًا من فيزياء الكمِّ) وتقنيَّات عالية. استشراف المستقبل يتطلب بناء القدرات وإعداد الجدارات وتطوير التقنيَّات. بناء القدرات يتعدَّى الاعتماد على رؤى القادة وهِمم العاملين المنجزين ورغبة وطموح الحكومات ودعم الشُّعوب. استشراف المستقبل يتطلب جهودًا مؤسَّسيَّة وتقييمات خبراء مشهود لهم بعُمق المعرفة واستنارة البصيرة. يتطلب كذلك معرفة واسعة ومُتجدِّدة وبيانات دقيقة مُتجدِّدة وشاملة، ومناهج بحث، وأدوات تقييم موثوقة ومتكاملة. القدرة على استشراف المستقبل تتطلب قراءة فاحصة للتَّوَجُّهات التقنيَّة والابتكاريَّة والتغيُّرات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والتَّحوُّلات المُجتمعيَّة. وفي ظلِّ التَّنافس الشَّديد بَيْنَ الدوَل لاكتساب ممكنات المستقبل وتبوؤ مواقع الرِّيادة والقيادة أصبح من المُهمِّ والحتمي اعتماد كُلِّ دَولة على قدراتها وإمكاناتها، بل التَّطوير المستمرّ لها وتوسيع مجالاتها.

أوجدتِ العولمة عالَمًا تنافسيًّا شرسًا الغلَبة فيه لِمَن يمتلك البيانات، والقدرات، والجدارات، والتقنيَّات. وأظهرت العقود الأخيرة فشل العولمة في إنجاز ما بشّرت به من جعل العالَم مترابطًا ومتكاملًا ومتعاونًا من خلال إزالة الحواجز وتفكيك الحمايات، ومن خلال مشاركة الجميع معطيات التقدُّم التِّقني. وحيثُ إنَّ العولمة هي نتاج الرأسماليَّة الشَّرسة فإنَّ القوى الفاعلة والمؤثرة حافظت على تحكُّمها وسيطرتها ودأبت على جعل الآخرين تابعين لها من خلال اعتمادهم على نُظُمها وتقنيَّاتها وسياساتها. وعِندَما بدأتِ الدوَل النَّامية التَّحرُّر من قبضة وسيطرة الدوَل المتقدِّمة المتحكمة لم تتوانَ الأخيرة من تسخير كُلِّ السُّبل والأدوات لإعادة إحكام سيطرتها ومن ذلك محاولة تفكيك العولمة والعودة إلى الحمائيَّة والانعزاليَّة. رفع حكومة الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة مؤخرًا للتَّعريفات الجمركيَّة واستخدام العالَم الغربي أسلحة المقاطعة الاقتصاديَّة والتقنيَّة والعلميَّة كأدوات ضغط وسيطرة هي أدلَّة جليَّة على التطبيق الانتقائي للعولمة وللرَّغبة الجامحة في إبقاء سيطرتهم على الدوَل النَّامية ومقدَّراتها. غير أنَّ تغيُّر موازين القوى السِّياسيَّة وتحوُّل المعطيات الاقتصاديَّة لصالح الدوَل النَّامية خصوصًا الكبرى مِنْها أحدَث تغييرًا جذريًّا سيُعِيد تشكيل المشهد الاقتصادي العالَمي. النَّاظر إلى أسباب هذا التَّحوُّل يظهر له جليًّا أنَّ أهمَّ ممكنات هذا التَّحوُّل هي قدرة تلك الدوَل النَّامية على بناء قدراتها الوطنيَّة وتطوير إمكاناتها التقنيَّة ونُظُمها الاقتصاديَّة. في هذا التَّحوُّل والتَّطوُّر اللافت دليل قوي ومثال جلي على أنَّ استقلال الدوَل والأُمم لا يَتحصَّل إلَّا من خلال بناء قدراتها الوطنيَّة الذاتيَّة ومن خلال المبادرة إلى استشراف المستقبل وتطوير ممكناته. القدرة على استشراف المستقبل بتحدِّياته وفرصه ومعطياته في عالَم متغيِّر يشهد تحوُّلات عميقة ومتسارعة في كُلِّ مناحي الحياة ومجالاتها ونُظُمها يتطلب بناء قدرات واسعة، ومتخصِّصة، ومَرِنة، ومتطوِّرة. القدرات الواجب توافرها هي قدرات جمعيَّة متكاملة ومترابطة تتضمن التقنيِّين والأكاديميِّين والمستقبليِّين والسَّاسة والمفكِّرين والتَّنفيذيِّين والإعلاميِّين وغيرهم من ذوي المعرفة والخبرة. ويَجِبُ أن يكُونَ ذلك من خلال عمل مؤسَّسي متكامل واستثمار سخي مستدام وإيجاد نُظُم للعمل الجماعي الاحترافي المنظِّم ولتحقيقِ أداء عالٍ سريع التَّجاوب مع التَّطوُّرات المتسارعة والتَّحوُّلات المستمرّة. بناء قدرات استشراف المستقبل يتطلب دعمًا سخيًّا للمؤسَّسات العلميَّة والفكريَّة والتَّطويريَّة كالجامعات والمعاهد مع إعادة تشكيل برامجها التَّعليميَّة والبحثيَّة والتَّطويريَّة لِتكُونَ أسرع استجابة للتَّطوُّرات ولمواكبةِ التَّسابق المحموم في تطوير التقنيَّات والجدارات والقدرات. ومن أهمِّ مرتكزات الرِّيادة المستقبليَّة مراكز التَّفكير والدِّراسات الاستراتيجيَّة مدعومة بمعاهد تطوير وبمؤسَّسات تنفيذ قادرة على إحداث تغيير على صعد متعدِّدة وفي مجالات مختلفة ولقيادة تحوُّل مؤثِّر وشامل. تزخر سلطنة عُمان بمقدّرات كبيرة وكفاءات عالية في مجالات عديدة ولها إنجازات واضحة في البحث والتَّطوير وفي ريادة الأعمال وفي التَّنمية الاقتصاديَّة. غير أنَّ كثيرًا من النَّجاحات قائمة على مبادرات أفراد أو مؤسَّسات ينقصها التَّكامل والتَّعاون وفي أغلبها تكُونُ تجاوبًا مع تطوُّرات حاليَّة وليس استشرافيَّة مستقبليَّة. ويغلب على أكثرها البُعد التِّقني والاقتصادي وتغفل عن أبعاد مهمَّة أخرى كالخصوصيَّة والتَّحوُّلات المُجتمعيَّة، والثَّقافيَّة، والتَّوَجُّهات السُّلوكيَّة الاستهلاكيَّة. القدرة على استشراف المستقبل وبناء ممكناته ضرورة ملحَّة للانتقال من التَّبعيَّة إلى الرِّيادة ومن الاعتماد على الغير إلى الاستقلاليَّة ومن ردَّة الفعل إلى المبادرة ومن اقتصاد ريعي قائم على الاستهلاك إلى اقتصاد منتج ومن شحِّ وضعف فرص التَّشغيل إلى مجالات تشغيل وافرة، وعالية القِيمة والعائد.

استشراف المستقبل هو الخطوة الأولى والضروريَّة للسَّير إلى المستقبل، بل القفز إِلَيْه بكًلِّ مُكنة واقتدار. تليها خطوات أخرى ستتناولها المقالات التَّالية.

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان

ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية