اهتمَّ البيت الأبيض باعتراف مراسل موقع أكسيوس، الصُّحفي أليكس تومبسون، بأنَّ الصِّحافة والإعلام لم تغطِّ بالشَّكل الكافي تدهوُر وضع الرَّئيس الأميركي السَّابق جو بايدن وهو في السُّلطة. كلام الصُّحفي جاء في عشاء الصُّحفيِّين بالبيت الأبيض هذا الأُسبوع حيثُ منح جائزة صحفيَّة. رُبَّما يكُونُ احتفاء فريق الرَّئيس الحالي دونالد ترامب بكلامه راجع إلى ما كان يردِّده ترامب عن صحَّة بايدن وهو في السُّلطة وأنَّه لم يَعُدْ صالحًا للوظيفة. وهنا سيبدو مراسل أكسيوس وكأنَّه يُنافق إدارة ترامب الحاليَّة ويسمع رجال الرَّئيس «ما يطرب الأُذن» كما يحلو لترامب أن يردِّدَ حين يسمع لمحدِّثيه الَّذين يرضَى عَنْهم. لكن يفترض أنَّ البيت الأبيض كما غطَّى على وضع بايدن الصحِّي قادر أيضًا على تغطية الكثير ممَّا يتعلق بالرَّئيس الحالي. وذلك أمْر معتاد مع كُلِّ الرُّؤساء. إنَّما الصِّحافة والإعلام لم تركِّزْ فعلًا على مظاهر كثيرة كنَّا جميعًا نلاحظها على بايدن تُشير إلى أنَّه غير لائق تمامًا صحيًّا أو رُبَّما بسبب السِّن. ولا يُستبعد أن يكُونَ وضعُه هذا السَّبب الأوَّل في انسحابه من سباق الرِّئاسة أمام ترامب وترشيح الديموقراطيِّين لنائبته كامالا هاريس الَّتي خسرتْ لصالحِ المُرَشَّح الجمهوري.
الحكمة هنا أنَّ الجمهور العادي يفقد ثقته تدريجيًّا في الصِّحافة والإعلام، ليس بسبب فشلها في كشف هذا الأمْر أو ذاك أو تقصيرها في تغطية أحداث مُهمَّة ينتظرها المُتلقِّي فحسب، وإنَّما لأنَّ المزاج العامَّ للجمهور الواسع تغيَّر كثيرًا مع انتشار وسائل التَّواصُل واتِّساع نطاق تغطية الإنترنت بكُلِّ ما يُتاح عَلَيْها من معلومات وأخبار، حتَّى لو كان الكثير مِنْها مفبركًا. فمع إمكانيَّة أن يكتبَ أيُّ شخصٍ أيَّ شيءٍ على مواقع التَّواصُل، أو يبثَّ أيَّ صوَرٍ وفيديوهات في لحظة لِتنتشرَ حَوْلَ العالَم ويصلَ إِلَيْها الملايين، أصبح نقْلُ الأخبار والمعلومات لا يستند إلى أيِّ عمليَّة تمحيص أو تدقيق. وتطوَّرتْ شهيَّة الملايين من الجمهور المُتلقِّي للاطِّلاع على الأخبار والآراء السَّهلة المُتاحة دُونَ الحاجة لمتابعةٍ حتَّى موقع صحيفة أو مَنفذ إعلامي. ومع تطوُّر برمجيَّات تحرير الصوَر والفيديو على الإنترنت بسهولة وسرعة، وأيضًا تزوير بل واختلاق أيِّ محتوى، وجدتِ الصِّحافة التَّقليديَّة نَفْسها تلهثُ وراء مواقع التَّواصُل، وتحاول أن تحافظَ على ما تبقَّى لها من سُوق الانتشار. وفي هذا السِّياق، تبنَّى كثير من المنافذ الصُّحفيَّة والإعلاميَّة أُسلوب وطريقة مواقع التَّواصُل والدردشة، أي ببساطة أصبحتْ تسعَى لِتُقدِّمَ للجمهور المتلقِّي ما يريده وليس ما تُمليه أُصول مهنة الصِّحافة والإعلام الَّتي كانتْ دومًا أساس ثقة الجمهور فيما يُنشَر ويُبَث من معلومات وآراء.
خلاصة القول، إنَّ مهنة الإعلام أصبحتْ أقربَ لِمَا كان يُقال عن فنِّ السّينما والدّراما في فترات التَّدهوُر من أنَّها تنتج المحتوى الَّذي يُناسب الذَّائقة الجديدة للجمهور على طريقة (الجمهور عاوز كده). وهكذا تخلَّتِ الصِّحافة عمَّا كان يُكسبها مصداقيَّة، وهذا ما ضاعفَ من تراجع ثقة الجمهور، إذ من بَيْنِ ما أصبحتْ عَلَيْه أنَّها تغطِّي الأحداث بطريقة «النّشطاء» أو «المؤثِّرين» أو نجوم التَّواصُل على الإنترنت. وضاعَ الخيط الفاصل الَّذي كان يجعل الصِّحافة والإعلام أحَد أهمِّ عوامل تكوين الرَّأي العامِّ وسُلطة رقابة على الحكومات والأعمال تَضْمن الالتزام بالقانون وحفظ الحقوق. أتصوَّر أنَّ ذلك من بَيْنِ أسباب ما نشهده الآن من صعود سريع وقوي لتيَّارات وجماعات ما كان لها أصلًا أن تحظى بهذا الزَّخم في ظلِّ وجود صحافة وإعلام لا يتماهَى مع مواقع التَّواصُل والدردشة. وما ينتقده البعض من تصدُّر أشخاص ومجموعات في الحدِّ الأدنى عَلَيْها شبهات مخالفة القانون مواقع رئيسة في بعض دوَل العالَم ليس سوى نتاج طبيعي لهذا الوضع.
لأنَّ التَّطوُّر التكنولوجي لا يتوقف، ولأنَّه «بزنس» كبير عالَميًّا ورُبَّما كان الأكثر تكوينًا لأنماط استهلاك جديدة ومبتكرة تَضْمن الرِّبح لرؤوس الأموال حاليًّا، أصبحتِ السِّلعة التكنولوجيَّة المتصدرة الآن هي الذَّكاء الاصطناعي. وطبيعي أن تكُونَ الصِّحافة والإعلام، إلى جانب التَّعليم والفنِّ وغيرها من روافد تشكيل الثَّقافة العامَّة، أحَد المجالات النَّشطة لاستخدامات الذَّكاء الاصطناعي. وبما أنَّ تطبيقات برامج الذَّكاء الاصطناعي يتمُّ تغذيتها من المحتوى المتاح على الإنترنت، والقدر الأكبر مِنْه إمَّا تافه وسطحي في الحدِّ الأدْنَى أو مزيَّف وملفَّق مليء بالأكاذيب ونظريَّات المؤامرة والدَّس والتَّضليل فإنَّ ما يُنتج عن الذَّكاء الاصطناعي من محتوى لن يكُونَ مختلفًا كثيرًا. ومع تسابُق وسائل الإعلام لتطبيق الذَّكاء الاصطناعي، من باب «مواكبة صيحة العصر»، فإنَّها تفعل ذلك بالطَّريقة الَّتي تعاملتْ بها مع مواقع التَّواصُل وأفقدَتْها قدرًا مُهمًّا من ميزتها وأيضًا ثقة الجمهور بالتَّالي. إذا كان إعلام مواقع التَّواصُل والدّردشة انتقصَ من رصانة وأهميَّة الصِّحافة والإعلام، فالأرجح أنَّ الإعلام الاصطناعي سيأتي على ما تبقَّى من ميزة للصِّحافة. صحيح أنَّه تبقَى دومًا هناك جماعة مرجعيَّة تُحاول الحفاظ على قواعد المِهنة الأساسيَّة، كما تبقَى هناك شريحة من الجمهور تُميِّز الفارق بَيْنَ محتوى صُحفي حقيقي و»كلام إنترنت»، لكنَّ أغلبيَّة كبيرة سوف «تستسهل» ما سيُتيحه هذا الإعلام الاصطناعي. ولعلَّ هذه تكُونُ صيحة تحذير وتنبيه للقائمين على الصِّحافة والإعلام كَيْ تُجيدَ الاستفادة من منتَجات التكنولوجيا لصالحِ تطويرِ مِهنتها بأُصولها وليس «تمييعها» لِتصبحَ في ذَيْل مواقع التَّواصُل ومحتواها.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري