الجمعة 02 مايو 2025 م - 4 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

مواقف تاريخية ـ أبريل 1960م: خطاب عبدالناصر الذي أرعب أميركا

مواقف تاريخية ـ أبريل 1960م: خطاب عبدالناصر الذي أرعب أميركا
الأربعاء - 30 أبريل 2025 06:34 م

خميس بن عبيد القطيطي

60

شهد شهر أبريل عام 1960م إحدى أهمِّ الأزمات في تاريخ القضايا العربيَّة، وتأتي أهميَّة هذه القضيَّة من النَّاحية السِّياسيَّة المُعَبِّرَة عن قوَّة الموقف العربي في المواجهة مع قوى الاستعمار، وتُعَبِّر عمَّا تمتلكه الأُمَّة العربيَّة من أوراق رابحة تستخدم فيها قوَّة الشُّعوب العربيَّة عِندَما تكُونُ هناك قيادة محوريَّة يلتفُّ حَوْلَها الملايين من أبناء الأُمَّة العربيَّة في موقف موَحَّد. ولْنُمعنْ في تفاصيل القضيَّة باستعراض ما حدَث للباخرة المصريَّة «كليوباترا» الَّتي رسَتْ في ميناء نيويورك بتاريخ الـ(13) من أبريل من عام 1960م، وكانتْ تبلغ حمولتها (8) آلاف طن وبطاقم عدده (103) من الرِّجال بقيادة القائد (الكابتن) أحمد بهاء الدين، وهي محمَّلة بشحنة من القطن المصري طويل التِّيلة وهو أجود أنواع القطن في العالَم، وبضائع أخرى، على أن تَعُودَ السَّفينة محمَّلة بالقمح (العيش) الَّذي يستخدمه أبناء الجمهوريَّة العربيَّة المُتَّحدة في إقليمها الجنوبي (مصر) كما يُسمَّى في ذلك الوقت؛ باعتبار الوحدة قائمة بَيْنَ مصر وسوريا في ذلك التَّاريخ، وما يُمثِّله القمح من أهميَّة كبيرة لأبناء مصر في طعامهم اليومي .

لقَدْ سبَقَ وصول الباخرة «كليوباترا» حملة سياسيَّة موَجَّهة ضدَّ مصر من قِبل الاحتلال «الإسرائيلي»؛ بسبب منعِ الرَّئيس جمال عبدالناصر سُفن «الاحتلال» من عبور قناة السّويس، كما تمَتْ مصادرة عددٍ من السُّفن المُتَّجهة من وإلى الكيان الصُّهيوني وبعد تدخُّل الأمين العامِّ للأُمم المُتَّحدة أفرجتْ مصر عن السُّفن مع الاحتفاظ بالبضائع الَّتي كانتْ تحملها، ولجأتْ «إسرائيل» إلى مجلس الأمن لتقديمِ شكوى ضدَّ مصر بسبب فرض سيادتها على مَعْبَر قناة السّويس على الرَّغم من أنَّه مَعْبَر دولي للملاحة البحريَّة، وجاء ردُّ عبدالناصر أنَّ مصر لن تنفِّذَ حتَّى لو حصلتْ «إسرائيل» على قرار من مجلس الأمن إلَّا إذا نفَّذتْ «إسرائيل» قرارات الأُمم المُتَّحدة بشأن فلسطين، وخصوصًا حقَّ اللاجئين الفلسطينيِّين بالعودة إلى أراضيهم أو تعويضهم. واللافت في الأمْر أنَّ الحملة على مصر هنا اتَّخذت مسارًا آخر عَبْرَ مناطق نفوذ «إسرائيل» من خلال علاقتها مع اتِّحاد البحَّارة الأميركيِّين الَّذي بِدَوْره أصدَر بيانًا بمقاطعة تفريغ وشحن البواخر المصريَّة في الموانئ الأميركيَّة، وقد تصل المقاطعة إلى دوَل أوروبا الغربيَّة في محاولةٍ لفرضِ إذعان على مصر، فيما يتعلق بمرور سُفن «إسرائيل» عَبْرَ قناة السّويس، ونتيجةً لتلك الحملة توقَّف عمَّال الشَّحن والتَّفريغ في ميناء نيويورك عن التَّعامل مع الباخرة كليوباترا، فقام السَّفير المصري في واشنطن مصطفى كامل بمناشدة وزارة الخارجيَّة للتَّدخُّل، والطَّلب من الرَّئيس «آيزنهاور» التَّدخُّل لحلِّ الأزمة نظرًا لأنَّ التَّبادل التِّجاري خاضع لاتفاقيَّة الصَّادرات والواردات بَيْنَ البلدَيْنِ، إلَّا أنَّ الخارجيَّة الأميركيَّة رفضتْ باعتبار أنَّ تدخُّل الرَّئيس لا يكُونُ إلَّا في الحالات الَّتي تؤدِّي إلى تهديد الأمن القومي .

نقلتِ الصِّحافة الأميركيَّة خبر المقاطعة الَّتي حدثتْ بتاريخ الـ(14) من أبريل 1960م ومظاهرة عمَّال الشَّحن والتَّفريغ في نيويورك ضدَّ وصول الباخرة المصريَّة «كليوباترا» احتجاجًا على المقاطعة العربيَّة ضدَّ «إسرائيل»، بالمقابل نشرتِ الأهرام المصريَّة في صفحتها الأُولى بتاريخ الـ(15) من أبريل 1960م «مانشيت» يقول: (إسرائيل تحرِّض عمَّال الشَّحن في أميركا ضدَّنا) وتُشير الأهرام كذلك إلى ما نُشر في الصُّحف «الإسرائيليَّة» الَّتي تحرِّض الموانئ الأوروبيَّة أيضًا على فعل الشَّيء نَفْسه الَّذي قام به عمَّال نيويورك. وذكرتْ مصادر صحفيَّة أنَّ سكرتير عام عمَّال الموانئ «الإسرائيليَّة» «الهستدروت» كان قد أبرقَ إلى اتِّحاد العمَّال العالَمي للشَّحن يشكُره على موقفه من الباخرة كليوباترا وأخذتِ الأزمة بُعدًا دوليًّا تمَّ تداوله في الصِّحافة العالَميَّة.

حاولَ السَّفير المصري في واشنطن تفادي الأزمة واحتواءها في مهدها، لكنَّ تأثير اللّوبي «الإسرائيلي» كان له دَوْر في تصعيدها، فكان لا بُدَّ من استخدام أوراق القوَّة السِّياسيَّة النَّاعمة من قِبل الرَّئيس عبدالناصر، وذلك عِندَما توَجَّه إلى إذاعة صوت العرب موَجِّهًا خِطابه لعمَّال الموانئ العربيَّة بهدف تدويل القضيَّة وإشراك اتِّحاد العمَّال العرب في الأزمة، وبعد أن شرحَ لهم ما حدَث في ميناء نيويورك ومحاولة «إسرائيل» الضَّغط على مواقف الجمهوريَّة العربيَّة المُتَّحدة الدَّاعمة لحقِّ أبناء الشَّعب الفلسطيني. طالبًا من عمَّال الموانئ العربيَّة مسانَدةَ مصر ودعمًا للقضيَّة الفلسطينيَّة بالتَّوقف عن تفريغ وشحن السُّفن الأميركيَّة، وبالفعل تصاعدتِ الأزمة؛ ففي يوم الـ(17) من أبريل ذكرتِ الأهرام أنَّ حادثة الباخرة ستتحوَّل إلى أزمة سياسيَّة كبرى، وأوْلَتْ موضوع الباخرة أولويَّة في التَّغطية الصحفيَّة اليوميَّة، وكُلُّ ذلك موَثَّق بالأهرام، (وتوجدُ نُسخ من المتابعة اليوميَّة لصحيفة الأهرام). هنا تحوَّلتِ الأزمة إلى أزمة دوليَّة بعد تهديد عمَّال الشَّحن العرب بالتَّوقف عن التَّعامل مع السُّفن الأميركيَّة، ونشرتِ الأهرام نصَّ حديث الرَّئيس جمال عبدالناصر إلى تلفزيون كولومبيا بتاريخ الـ(26) من أبريل مؤكدًا أنَّه «لا يوجد أيُّ حقٍّ لـ»إسرائيل» بالمرور عَبْرَ خليج العقبة ولا عَبْرَ قناة السّويس، وأنَّ المنعَ لا يرتبط بحُريَّة الملاحة، ولكن بحقوق الشَّعب الفلسطيني، وأنَّ المنعَ سينتهي بتنفيذ «إسرائيل» للقرارات الدّوليَّة المتعلِّقة بفلسطين، خصوصًا حقَّ اللاجئين بالعودة إلى بلادهم وتعويضهم عمَّا لحقَ بهم من خسائر، وأنَّنا نَعدُّ كُلَّ ممتلكات «إسرائيل» هي ممتلكات عرب فلسطين الَّذين حرموا من ممتلكاتهم وأراضيهم». وفي ذلك اليوم نَفْسه، رفضتِ المحكمة الفيدراليَّة وللمرَّة الثَّالثة الدَّعوى القضائيَّة المُقدَّمة من قِبل قائد الباخرة «كليوباترا» لرفعِ المقاطعة عَنْها، كما نشرتِ الأهرام أيضًا برقيَّة أرسلها اتِّحاد العمَّال العرب إلى الرَّئيس الأميركي «آيزنهاور» يطالبُه فيها بالتَّدخُّل لإنهاء الأزمة، كخيار أخير قَبل أن تبدأَ المقاطعة العربيَّة للسُّفن الأميركيَّة في الموانئ العربيَّة، كما تُشير الأهرام إلى أنَّ محكمة الاستئناف في نيويورك قرَّرتْ تأييد الحُكم السَّابق بعدم تفريغ الباخرة.. وعَلَيْه، فقَدْ أكَّد الأمين العامُّ للأُمم المُتَّحدة «داج همرشولد» أنَّ مقاطعة الباخرة لن يؤدي إلى فتح قناة السّويس أمام الملاحة «الإسرائيليَّة».

بعد أن وصلتِ الأزمة إلى طريق مسدودة وصعَّد اتِّحاد العمَّال العرب موقفه بعدم التَّعامل مع السُّفن الأميركيَّة. هنا جرتْ مشاورات بَيْنَ وزير الخارجيَّة «جيمس ديلون» مع رئيس اتِّحاد نقابات العمَّال ومجلس المنظَّمات الصناعيَّة لإنهاء الأزمة بعد أن أحدثتِ الأزمة حرجًا للإدارة الأميركيَّة، وذلك بعد انتهاء مهلة اتِّحاد العمَّال العرب. وبالفعل بدأ العمَّال في الموانئ العربيَّة تنفيذ حملة مقاطعة ضدَّ السُّفن الأميركيَّة والتَّوقُّف فعليًّا عن تفريغ وشحن السُّفن الأميركيَّة في مختلف الموانئ العربيَّة، فتمَّ إرسال برقيَّة عاجلة من قِبل رئيس اتِّحاد نقابات العمَّال الأميركيِّين «جون ميني» إلى رئيس عمَّال البحر في نيويورك بتفريغ الباخرة «كليوباترا» وشحنها بالقمح وفقًا لاتفاقيَّة التَّبادل التِّجاري بَيْنَ البلدَيْنِ لِتنتهيَ تلك الأزمة بانتصار سياسي سجَّله العرب بقيادة الزَّعيم جَمال عبدالناصر، بعد أن تمَّ تدويل القضيَّة وإشراك الجماهير واتِّحاد العمَّال العرب في القضيَّة، وبعد ممارسة اتِّحاد العمَّال العرب دَوْره التَّاريخي المشهود بالمقاطعة وتنفيذها بعد انتهاء المهلة المحدَّدة، ممَّا أدَّى إلى انتهاء أزمة الباخرة «كليوباترا». كتبتْ صحيفة الأهرام في عددها الصَّادر بتاريخ الـ(7) من مايو 1960م «مانشيت» عريضًا بعنوان «انتصرنا» مُثمِّنةً وقوف الأُمَّة العربيَّة خلف الجمهوريَّة العربيَّة المُتَّحدة، في واحدة من أهمِّ معارك القوميَّة العربيَّة ضدَّ الاستعمار، فعادتْ «كليوباترا» إلى مصر باستقبال شَعبي كبير بعد تحقيق انتصار سياسي أكَّد أهميَّة وحدة الموقف العربي في ظلِّ قيادة محوريَّة التفَّ حَوْلَها الجماهير ـ رحمَ اللهُ جَمال عبدالناصر.

ونستحضر هنا أبياتًا للعلَّامة الشَّيخ محمد بن شامس البطاشي قالها عِندَما شنَّ العدوُّ العدوان الثُّلاثي على مصر إبَّان أزمة السّويس صدح ـ رحمه الله ـ بلاميَّة أكبر فيها الزَّعيم المصري جَمال عبد الناصر وحيَّا مواقفه البطوليَّة يقول فيها:

لله يومــك يا جَمــــال

يا من له الشَّرف الكمال

يا ناصـر الإسلام يـا

حــامي الجــزيرة والقنال

يا رافعا علــم الديانة

فــوق هامــات الضــلال

فبك العروبة تنتمي

شــرفا وعــزا في المــآل.

رحمَ الله ذلك التَّاريخ العربي الجميل الَّذي سجَّلتْ فيه الأُمَّة العربيَّة وقياداتها مواقف مُشرِّفة دفاعًا عن قضاياها المصيريَّة، وما أحوج الأُمَّة اليوم إلى الوقوف وقفةً واحدة موَحَّدة لمجابهةِ الطُّغيان والعدوان الصُّهيوني ضدَّ الأبرياء في فلسطين قضيَّة العرب الأُولى، لله الأمْر من قَبل ومن بَعد.

خميس بن عبيد القطيطي

[email protected]