تُمثِّل الحُريَّة المضبوطة بضابط المسؤوليَّة والوعي المرتكز الرَّئيس الَّذي يصنع مِنْها قيمة مضافة ونتائج على الأرض، فهي تلك الحُريَّة الَّتي تتَّسم بالمسؤوليَّة في القول والفعل وفق منهجيَّات الشَّرع وروح القانون، ووفق ضوابط الدَّولة والنِّظام، ووفق حدود العمل المؤسَّسي والتَّشريعات واللَّوائح، تلك الحُريَّة الَّتي تَضْمن بقاء المواطن في مسار التَّوازنات، شامخًا في سُلوكه، عظيمًا في تصرُّفاته، منجزًا مسؤوليَّاته، محققًا آماله، ملتزمًا بما طلب الالتزام مِنْه، وهنا يصبح الحديث عن الحُريَّة المسؤوليَّة وارتباطها بالوعي الجمعي مرحلة متقدِّمة من الرُّقي الفكري والنُّضج المعرفي والسُّمو الأخلاقي، فالحُريَّة في ظلِّ مستويات واسعة وعميقة من الوعي المُجتمعي، إطار متوازن قادر على تشخيص الحالة المُجتمعيَّة والانطلاقة بها لمرحلة التَّأثير، وتقديم الحلول للمُشْكلات والتَّحدِّيات الَّتي يواجهها المُجتمع، لِتتَّجهَ الحُريَّة في ظلِّ الوعي نَحْوَ تحويل الواقع السَّلبي إلى موجِّهات إيجابيَّة من خلال ما تحمله من أُطر وأدوات وآليَّات، وتؤمن به من منطلقات قائمة على النَّقد البناء والتَّحليل الواعي، والاعتراف بالرَّأي والرَّأي الآخر، فالوعي يمنح الحُريَّة مساحة أكبر للبروز والظُّهور والتَّأثير والاستدامة واغتنام الفرص وتوظيف البدائل وصناعة جديدة للواقع وإنتاج للحلول، وخلق مرحلة متفاعلة منسجمة في فهمها للحُريَّات، إذ هي بالأساس حُريَّات مسؤولة يكفلها النِّظام الأساسي للدَّولة الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021) في المادَّة (35) «حُريَّة الرَّأي والتَّعبير عَنْه بالقول والكتابة وسائر وسائل التَّعبير مكفولة في حدود القانون». وتحميها الأنظمة والتَّشريعات وفق ممارسات معتدلة وأنماط فكريَّة متَّزنة، واعية بقِيمة حسِّ الكلمة ونمط التَّعبير وأُسُس الحوار، وآليَّة الوصول للحقوق وطريقة الحصول عَلَيْها، وفقَ موَجِّهات وأُطر وطنيَّة وتشريعيَّة وفكريَّة رصينة تنقلها من سُلطة الأنا إلى المُجتمع ومن سلبيَّة النَّظرة والتَّفسير إلى مساحات أوسع من التَّأمل والتَّحليل والإيجابيَّة، قائمة على الدِّراسات والبحوث والاستراتيجيَّات التَّنمويَّة والإحصائيَّات، فالحُريَّة في ظلِّ الوعي هي حُريَّة مسؤولة تستهدف بناء الإنسان، وتعزيز العيش الكريم له ومنحه فرصًا أكبر للإنتاجيَّة وابتكار الأدوات المناسبة لطبيعة التَّحدِّي، مستلهمة المبادئ والقِيَم والأخلاقيَّات الَّتي تضبط هذه الحُريَّة الفكريَّة بضابط الوعي وحقنها بأنسولين الأمانة والصِّدق، وعَبْرَ اختيار الأداة والوسيلة المناسبة الَّتي يصبح فيها حُب الوطن قول وفعل واعتقاد، يقين فطري ومسلّمة لا تقبل النِّقاش والمساومة أو وضعها في حيِّز المبرِّرات والتَّفسيرات.
على أنَّ الصُّورة الزَّائفة الَّتي استخدم بها البعض مفهوم حُريَّة الرَّأي والتَّعبير عَبْرَ منصَّات التَّواصُل الاجتماعي واتَّجهتْ بهم إلى البحث عن الشُّهرة، كان لها انعكاساتها السَّلبيَّة وتداعياتها على فَهْم الوطن وحقيقة المواطنة، فبحجَّة الحُريَّة أطلقوا العنان لعقولهم في أن لا يقولوا إلَّا الباطل ولا يتفهوا إلَّا بكلمات السّباب والشَّتم وتحجيم صورة المنجز أو التسلُّق على أكتاف الآخرين، فهل الوطنيَّة تصفية حسابات مع الأشخاص، أن أمارسَ السّباب والشَّتم والتَّخوين والقذف وانتهاك الأعراض والتَّدخُّل في الخصوصيَّات من أجْلِ أنَّ هذا الشَّخص أو ذاك لدَيْه توجُّهات فكريَّة تتقاطع سلبًا مع تفكيري وقناعاتي؟، وهل سمعتم في يوم ما وطنًا يدعو إلى ذلك؟ الحقيقة حاشا للأوطان أن تمارسَ هذا الدَّوْر فهي حاضنة للجميع حنونة على الكُلِّ، وما يظهر من حالة السُّقوط الأخلاقي إنَّما تصنعه عبثيَّة الإنسان وأيادي البَشَر وألسنتهم وأفكارهم الهوجاء ومنطوقهم الأعوج ظنًّا مِنْهم أنَّ في قذفهم وتناولهم لخصوصيَّات الأشخاص يقدِّمون لوطنهم عربون الحُب والمواطنة، إنَّها ممارسات مغلوطة وأفكار تنبئ عن غياب الوعي ومحاولة الزَّج بالوطن في أُمور أبعد أن تمارسَها الأوطان. ولماذا يرَى البعض في الحُريَّة طريقه للشُّهرة والتَّشهير ونشْر الإشاعات والتسلُّق على أكتاف القدوات والنَّماذج والمخلِصَين، وأصحاب المبادرات، فينتظر حتَّى إذا وصلَ (الترند) مبلغه تدخَّل وكأنَّه فريد عصره وعالِم دهره، بَيْنَما يصفِّق للهوان، وينتصر للضَّعف، فهو في آخر الرَّكب في العطاء والمبادرة بَيْنَما يتجلى في أوَّل الصَّف عِندَما يُراد للمشهد الظُّهور واستراق الأضواء؟ نعم نحن بحاجة للحُريَّة المسؤولة الَّتي تنتقد الواقع وتكشف الحقيقة وتبصِّر النَّاس بما ينبغي أن يكُونُوا عَلَيْه في حياتهم، وتُعلِّمهم السَّمْت العُماني في العمل، والنَّقد البنَّاء في تناول الأحداث، بل تُسانِد صاحب القرار ومَن ائتمنهم الوطن على أبنائه في تصحيح مسار العمل وبلوغ الحقِّ والصِّدق في أيِّ توجُّه، إذ بذلك تتحقَّق الشَّفافيَّة والمعياريَّة الَّتي هي أساس البناء الوطني وبناء المواطنة المسؤولة. ويصبح التَّنوُّع في البدائل واستخدام أدوات عُمانيَّة أصيلة في التَّعبير عن الحقوق والمطالبة بها أقرَّها النِّظام الأساسي للدَّولة وأصَّلتها منظومة التَّشريعات وبرامج العمل الوطنيَّة، فرصة لتعظيمِ الاستفادة من الاختلاف في وجهات النَّظر، وتوجيهه لصالح العمل النَّوعي، وهي فرصة للتَّصالح الذَّاتي والتَّرابط المُجتمعي؛ فإنَّ الحُريَّة المسؤولة الَّتي يحتاجها مُجتمعنا اليوم في ظلِّ اتِّساع رقعة التَّأثيرات الخارجيَّة والمؤثِّرات الفكريَّة والمعلَّبات الجاهزة الَّتي تستهدف الثَّوابت الوطنيَّة والمواقف الحكيمة المُعلنة لسلطنة عُمان؛ إنَّما تتأسَّس في إطار تلازميَّة الوعي والمسؤوليَّة والثَّقافة الوطنيَّة والهُوِيَّة والسَّمْت العُماني، وتؤسِّس في المواطن مرحلة التَّوازنات والتَّقييم الذَّاتي والممارسة التَّأمليَّة الواعية.
إنَّ حُريَّة التَّعبير لا تعني إنكار حقائق الإنجاز الَّتي قدَّمها أبناء الوطن في فترات سابقة ولا ينبغي النَّظر إلى ما يتمُّ تقديمه اليوم في إطار ضيق ونظرة سطحيَّة، والإصلاح طريقه الحوار والاحتواء والشَّراكة والعمل معًا من أجْلِ تقديم حلول عمليَّة واقعيَّة ومشاركتها الجميع وفقَ أُسُس المراجعة والتَّصحيح والرَّأي الآخر، فحُريَّة الرَّأي والتَّعبير لا تعني التَّشهير بالوطن أمام الملأ ورمي التُّهم عَلَيْه، أو التَّقليل من شأنه أو بَيْعه بثُمن بخسٍ ومقياس الكلمة في ظلِّ موازين الرِّبح والخسارة الماديَّة، أو تقديمه لُقمة مستساغة أمام من يريدون بالوطن والمواطنة العُمانيَّة أن تتزعزعَ من قِبل أبنائها الَّذين يفترض أن يلتزموها ويحفظوا وجودها، إذ ليس هناك أحنُّ من الأوطان عَلَيْنا، ولا يوجد مَن يستطيع أن يُقيِّمَ حالنا ويدفعَنا للعمل من أجْلِ أوطاننا غيرنا، ولا يُمكِن أن نتلقَّى النَّصيحة الصَّادقة الَّتي تُحقِّق لنا ولوطننا ما نريد إلَّا بحُسن نيَّاتنا وصِدقنا مع بعضنا وولائنا لقيادتنا الحكيمة، وإدراكنا للقِيمة المُتحقِّقة عِندَما نفكِّر في البيت الواحد كيف نعمل على لمِّ شملِه أو إعادة ترتيبه أو نَضْمن قوَّته في مواجهة المُتربِّصين في هذ العالَم. إنَّ ثمنَ الحُريَّة اليوم دعوة للتَّأمُّل في ما يعيشه العالَم من أحداث وما يعيشه الكثير من الأوطان من أزمات، في مواجهة المهرِّجِين والمُسيئين والمزيِّفين والحثالة والمأجورين والمستعبدين في النَّيْل من سلطنة عُمان وتشويه سُمعتها وإرفاق الدَّسائس لها، وترويج ذلك عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة الَّتي باتَ ينشط فيها الذُّباب الإلكتروني والتَّجييش الَّذي يستهدف زعزعة الاستقرار وشقَّ عصا الوحدة الوطنيَّة والتَّأثير على النَّسيج الاجتماعي وخلق حالة من الهشاشة الفكريَّة لدَى الشَّباب نَحْوَ وطنهم؛ وهو أسمى من أن يباعَ في مزاد الرِّبح والخسارة أو يقرأ في امتيازات أو عطاءات، لذلك لم تَعُدْ حُريَّات الرَّأي الَّتي تتفوَّه بها حناجر المُغرِضِين وتفاهة المتسلِّقين وحقد المُتصهينين في عالَم يفتقر لضميرِ المسؤوليَّة ويعيش حالة السُّقوط الأخلاقي ويعيش فيه الحمقى والمغفَّلِين حالة العظَمة والجبروت والظُّلم والإفساد في انتهاك صارخ لكُلِّ القوانين الدّوليَّة والأعراف والمشتركات الإنسانيَّة.
وتبقى هذه المعطيات محطَّة لتعظيمِ الوعي الجمعي والمسؤوليَّة المشتركة في تعزيز قدرتنا الوطنيَّة على إدارة كُلِّ الاحتمالات والتَّعامل مع كُلِّ المعطيات القادمة، مرحلة تتطلب مِنَّا مزيدًا من الحوار مع كُلِّ الأطراف ومن خلال كُلِّ القنوات ونتفاعل فيها مع كُلِّ الفئات ونستجيب فيها لِمَا أجمعتْ عَلَيْه كُلُّ الآراء، نحن في مرحلة بحاجة لأن نحتضنَ فيها أولئك الَّذي صدرتْ مِنْهم الإساءة بقصدٍ أو غير قصد، ونستفيد مِنْهم في رسم القرار وصناعة السِّياسات وتقديم بدائل الحلِّ وإشراكهم في المتابعة والتَّقييم والوقوف على الواقع وإسناد المسؤوليَّة لهم في الإصلاح الَّذي جاءتْ به الإرادة السَّاميَّة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان المُعظَّم.
د.رجب بن علي العويسي