الجمعة 02 مايو 2025 م - 4 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

حين ينهض الحفاة من تحت الرماد

حين ينهض الحفاة من تحت الرماد
الثلاثاء - 29 أبريل 2025 12:46 م

إبراهيم بدوي

10

في روايته الخالدة «الحرافيش»، الَّتي تُرجمت لاحقًا إلى مسلسل وعددٍ من الأفلام، أبدعَ نجيب محفوظ في رسم ملامح شخوص تحمل في مظهرها وباطنها إسقاطات كبرى، سياسيَّة واجتماعيَّة، وفلسفيَّة تتجاوز الزَّمان والمكان. فقَدْ كنتُ في قراءتي الأُولى للرِّواية، منذُ ما يزيد عن ثلاثين عامًا، مأخوذًا بعاشور الناجي، الجد المؤسِّس، القوي المتواضع، الَّذي حاز القوَّة، لكنَّه لم يستعملْها إلَّا لدرءِ الظُّلم عن دائرته القريبة، قَبل أن يدركَ أنَّ العدل لا يتحقق إلَّا حين تُصبح القوَّة أداةً لحماية الجميع، إلَّا أنَّ عاشور أخطأ حين اكتفى بأن يكُونَ العون، ولم يسعَ لتمكينِ «الحرافيش» أنْفُسهم، فظلُّوا عالةً عَلَيْه، ومن بعده صاروا يتأرجحون بَيْنَ تمجيدِه ولعنِه، بحسب ما ينالُهم من ذريَّته، ومع ذلك بَقِيَ النَّموذج الأصيل في الذَّاكرة، ولم تمُتْ حكايته؛ لأنَّها كانتْ تحمل النُّور في زمن اشتدَّتْ فيه العتمة، وتلك سنَّة النَّماذج الأصيلة، فهي تبقَى رغم سقوط مَن يحملون أسماءها. لكن ما باتَ يستوقفُني اليوم أكثر من النَّاجي، هو الشّرير الأخير أو الفتوَّة الَّذي واجهَه عاشور الأخير، والَّذي تماهى في تركيبته مع نماذج القوَّة المنفلتة، المتجرِّدة من أيِّ منطق أو مبدأ أو أخلاق أو حتَّى الاختباء وراء منظومة قِيَميَّة، فهو فتوَّة لا تبرير عِندَه سوى البطش، ولا لُغة له إلَّا التَّهديد، لا يُخفي شرَّه وراء قناع زائف، ولا يجهد نَفْسه في تَبنِّي مظاهر من الفضيلة. تجسَّدتْ فيه قمَّة الفساد الأخلاقي، وكان إسقاط محفوظ عَلَيْه قاسيًا ومتعمدًا، فهو الشَّر في صورته العارية، الغاشمة، الَّتي لم تَعُد تكترث حتَّى بإيجاد تبرير لِسَطْوتِها. ولم يكُنْ من قَبيل المصادفة أن يختتمَ محفوظ الرِّواية بمشهد ثوري، تنهض فيه «الحرافيش» من هامش الخوف، وتغمر أقدامهم الحافية جسَد الطَّاغية في دلالة رمزيَّة جارحة، تؤكِّد أنَّ الشَّرَّ حين لا يَعُودُ يُجِيد حتَّى التَّمويه، يُصبح موته حتميًّا، وسقوطه مسألة وقت، تفرضها سُنن الحياة لا الشِّعارات. ولا أدري لماذا؟ في قراءتي الأخيرة، شغلتني تلك النِّهاية، وكأنَّ الزَّمن يكرِّر نَفْسَه، ولكنَّ هذه المرَّة على المسرح الكبير للعالَم. ترامب، مثل ذلك الفتوَّة العاري، يلوِّح بسطوته، ويُطلق تهديداته كما يشاء، يفرض الرُّسوم، ويُجبر الدوَل على الانصياع، يطلب ضمَّ كندا، يفرض رسومًا على الصِّين، يطلب غزَّة، يدعو مصر لِعُبورٍ مجَّاني من قناة السويس، دُونَ سنَدٍ أخلاقي أو قانوني، متجاهلًا أيَّ مواثيق أو أعراف، وبجواره يقف المُجرِم نتنياهو، وهو مُجرِمٌ استثنائي بكُلِّ المقاييس، سقطتْ عَنْه أوراق التُّوت، ولم يَعُدْ يَعنِيه إلَّا أن يشبعَ رغباته في القتل والتَّدمير، تحت سمع العالَم وبصره.. كلاهما يتصرف وكأنَّ لا حرافيش في هذا الزَّمان، وكأنَّ الشُّعوب لن تنهضَ أبدًا، وكأنَّ لا عاشور صغيرًا قادم من بَيْنِ الأزقَّة العربيَّة! وما يُثير الرُّعب في هذه اللَّحظة، أنَّ العالَم بأسْرِه ـ أو مَن يُفترض به تمثيل قِيَمه ـ يقف صامتًا، ورُبَّما متواطئًا، مع مشهد الفتوَّة والنبوت، وهذا الصَّمت أشدُّ وطأة من الظُّلم؛ لأنَّه يُسكت الضَّمير ويشرِّع الوحشيَّة. ورغم قتامة المشهد، لا يسعُني إلَّا أن أحلمَ بثَوْرة عالَميَّة، تخرج من أعماق هذا الظَّلام الَّذي طال مكوثُه، تلدها المعاناة وتغذِّيها الكرامة المهدورة، وتَقُودُها أقدام «الحرافيش» الحفاة، الَّذين لا يملكون إلَّا قلوبَهم وأملَهم ووعيَهم المشتعل كجمرٍ تحت رماد الصَّمت.. أعترف أنَّني أحلم بيومٍ لا يلوِّح فيه زعيم بكلمات جوفاء، ولا يُفرض فيه منطق الغلَبة بقوَّة السِّلاح، بل تَكتُب فيه الشُّعوب وترسمُ بخطواتها المقهورة خريطة جديدة للكرامة. تخيّلهم... وقد خرجوا من ظلمة الأزقَّة، بملامح مُتعبة، وقلوب مشتعلة، وأقدام حافية تهدر فوق رأس الفتوَّتيْنِ ترامب ونتنياهو، تسحقُ تحت إرادتهم رموز الشَّر، وتزيح الأقنعة عن وجوه تزيَّنتْ طويلًا بشعارات الحُريَّة وحقوق الإنسان، بَيْنَما كانتْ ترعَى القتل والدَّمار. ففتوَّة العالَم الجديد ـ من ترامب إلى نتنياهو ـ سيُسحق جبروته ليس على يَدِ جيوش جرَّارة، بل على يَدِ الحقيقة حين تصرخ، والضَّمير حين يستفيق، والنَّاس حين تَقُول كفى.. فأقدام «الحرافيش» الحفاة لا تُحدِث جلبةً حين تتحرك، لكنَّها حين تَفُور تسحقُ كُلَّ ما ظنَّ الطُّغاة أنَّه خالد، وسيأتي هذا اليوم، لا محالة، رُبَّما بطيئًا كخطواتِ الخائفِين، لكنَّه حتمي كطلوع النَّهار، فالتَّاريخ لا يرحم، والظُّلم لا يخلد، و»الحرافيش» حين يستيقظون لا يتركون شيئًا على حاله.

إبراهيم بدوي

[email protected]