الجمعة 02 مايو 2025 م - 4 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : خطوات واسعة نحو الاستدامة

الثلاثاء - 29 أبريل 2025 06:35 م

رأي الوطن

40

تُمثِّل الاستدامة اليوم حجَر الزَّاوية في استراتيجيَّات التَّنمية الوطنيَّة، لا بوصفها ترفًا بيئيًّا أو توَجُّهًا نخبويًّا، بل كضرورة وجوديَّة في ظلِّ ما يشهده العالَم من تحدِّيات اقتصاديَّة ومناخيَّة متسارعة. ولَطالَما ارتبط مفهوم الاستدامة بقدرة الدوَل على تَبنِّي سياسات إنتاجيَّة تُوازِن بَيْنَ النُّموِّ الاقتصادي والحفاظ على الموارد الطَّبيعيَّة..

ومن هذا المنطلَق تتقدم سلطنة عُمان بخُطًى واثقة نَحْوَ ترسيخ هذا المفهوم، ليس عَبْرَ التَّصريحات والمبادئ فقط، بل من خلال تنفيذ مشاريع نَوعيَّة، على رأسها التَّصنيع المحلِّي لِمُكوِّنات الطَّاقة الشَّمسيَّة. فإنشاء مصنع متكامل لإنتاج الخلايا والألواح الشَّمسيَّة في المنطقة الحُرَّة بصحار، بطاقة إنتاجيَّة ضخمة تصل إلى (6) جيجاواط من الخلايا، يُشكِّل نقطة تحوُّل جوهريَّة في مسار الاقتصاد العُماني، ويجسِّد انتقاله من اقتصاد تقليدي يعتمد على الرّيع إلى اقتصاد إنتاجي مستدام ذي طابع ابتكاري، وقِيمة مُضافة عالية على المستوى المحلِّي والإقليمي.

يُمثِّل هذا المشروع مثالًا عمليًّا على تكامل الرُّؤية والسِّياسة والاستثمار، حيثُ لم يَعُدِ الحديث عن الطَّاقة المُتجدِّدة حبيس التَّصوُّرات النَّظريَّة، بل تحوَّل إلى مشروع واقعي مدعوم بشراكات استراتيجيَّة وتخطيط صناعي دقيق، فاستقطاب شركة عالَميَّة بحجمِ (جيه إيه للطَّاقة الشَّمسيَّة) لتأسيسِ هذا المصنع يعكس نجاح الجهود الحكوميَّة في جعل البيئة الاستثماريَّة العُمانيَّة أكثر جاذبيَّة، خصوصًا في القِطاعات الحيويَّة الَّتي تنسجم مع رؤية «عُمان 2040»، واختيار موقع المشروع في صحار لم يكُنْ محض مصادفة، بل يعكس وعيًا بقدرات المنطقة اللوجستيَّة، وتكامل بنيتها الأساسيَّة مع الموانئ والطُّرق وسلاسل التَّوريد الإقليميَّة، كما يُسهم هذا التَّوَجُّه في تحقيق هدفيْنِ محوريَّيْنِ، الأوَّل هو تعزيز الاستقلال الصِّناعي وتقليل الاعتماد على الواردات في قِطاع الطَّاقة النَّظيفة، والثَّاني هو تنمية الصِّناعات التَّحويليَّة المرتبطة بالطَّاقة الشَّمسيَّة، وخلْق منظومة إنتاج متكاملة تنعكس آثارها على فرص العمل ونقلِ المعرفة.

ولا يُمكِن فَهْم هذا المشروع بمعزلٍ عن السِّياق الأشمل لسياسة التَّنويع الاقتصادي في عُمان، الَّتي تسعَى إلى فكِّ الارتباط التَّدريجي من تقلُّبات قِطاع النِّفط، وتعزيز ركائز الاقتصاد القائم على الابتكار والمعرفة، فالصِّناعات المرتبطة بالطَّاقة المُتجدِّدة ليسَتْ مجرَّد بدائل للطَّاقة التَّقليديَّة، بل هي رافعة اقتصاديَّة وصناعيَّة تُسهم في رفع مساهمة القِطاع الصِّناعي في النَّاتج المحلِّي، وتُحفِّز القِطاع الخاصَّ على الانخراط في مشاريع ذات جدوى اقتصاديَّة واستدامة بيئيَّة، ومن المُهمِّ هنا الإشارة إلى الدَّوْر الحواري للمنتديات الاستثماريَّة مِثل (أدفانتج عُمان)، الَّتي لم تَعُدْ مجرَّد مناسبات بروتوكوليَّة، بل باتتْ منصَّات استراتيجيَّة لعَرضِ الفرص، وبناء شراكات، وتوجيه الاستثمارات إلى مجالات المستقبل، وهذا ما يُعزِّز أهميَّة أنْ تكُونَ تلك المنتديات مستمرَّةً وتفاعليَّة، قائمة على دراسات سُوق واقعيَّة ورؤية استشرافيَّة للمستقبل.

إنَّ التَّوقيع على اتفاقيَّات صناعيَّة كبرى في مجالات الطَّاقة المُتجدِّدة ليس فقط دليلًا على استقرار البيئة الاستثماريَّة في سلطنة عُمان، بل هو مؤشِّر على التَّحوُّل الحقيقي نَحْوَ الاقتصاد الأخضر، فالمكاسب المنتظرة من هذا المشروع لا تقتصر على عوائد ماليَّة أو اقتصاديَّة فحسب، بل تمتدُّ لِتشملَ أبعادًا بيئيَّة وجيوسياسيَّة، مِنْها تقليل البصمة الكربونيَّة، ورفع كفاءة استخدام الطَّاقة، وتعزيز صورة عُمان كلاعب إقليمي في قِطاع الطَّاقة النَّظيفة، كما أنَّ إيجاد منظومة إنتاج محليَّة متكاملة سيُسهم في توطين التكنولوجيا وبناء قاعدة معرفيَّة صناعيَّة، ما يمنح عُمان ميزةً تنافسيَّة مستدامة في سُوق عالَمي متغيِّر.. وفي ضوء ذلك فإنَّ الخطوات الواسعة، الَّتي تخطوها السَّلطنة في هذا الاتِّجاه، لا تُعبِّر فقط عن التزام حكومي، بل تُعبِّر عن وعي وطني شامل بأنَّ المستقبلَ لا يُصنَع بالصُّدفة، بل بالاستباق، والجرأة، والإرادة.