منذ سنوات، قدّمت محاضرة لطلبة الصف الثاني عشر في مدرسة سمهرم الخاصة، المدرسة التي أشرف عليها وأسعى من خلالها إلى تجسيد التربية الإيجابية القائمة على تقدير الطالب، ومساعدته على رسم صورة ذاتية إيجابية. إنها البيئة التي أرى فيها أرضًا خصبة لتحرير طاقات الطلاب، وتحديد أهدافهم، وتصوّرها، والسعي لتحقيقها في مناخ تربوي آمن ومطمئن. تحدّثتُ إلى الطلاب عن أهمية بناء صورة إيجابية للذات، وعن أهمية القيام برحلة عقلية إلى المستقبل لتصميم وتخلد الأهداف العظيمة والرائعة.
سألتهم بصوت هادئ مفعم بالإثارة: «في مثل هذا اليوم من العام القادم.. أين تريد أن تكون؟ أين ترى نفسك؟ ماذا ترى نفسك تفعل؟ مع من؟ وفي أي مكان؟»
ثم طلبتُ منهم أن يغمضوا أعينهم، ويسترخوا، لننطلق معًا في رحلة هادئة إلى المستقبل عبر خيالهم النقي. كانت الجلسة هادئة، مفعمة بطاقة التأمل.
استدعيت فيها تقنية «ألفا»، حيث يصبح الذهن أكثر استعدادًا للاستقبال، وأكثر قربًا من أعماقه الوجدانية. ساعدتهم على رسم صور حية، نابضة، لمستقبلهم المنشود: مهنة يحبونها، مكان يشعرون فيه بالانتماء، ودور في الحياة يمنحهم الشعور بالقيمة.
وبعد نحو ربع ساعة، أعدتهم بلطف إلى الحاضر، وسألتهم عما رأوه. كانت المفاجأة أن معظمهم خرجوا من التجربة وهم يحملون صورة واضحة وإيجابية عن ذواتهم.
صورة لم تُفرض عليهم، بل نبعت من أعماقهم، من أحلامهم الصادقة، ومن شفافية تلك اللحظة. من بين أولئك الطلاب، كان هناك طالب هادئ الطباع، وديع القسمات، اسمه طلال بن جادح الشحري. لم أكن أعلم حينها أن تلك اللحظة ستترك أثرًا عميقًا فيه، وأنه سيحمل صورة مستقبله كنبراس يهتدي به خلال مسيرته. مرَّت السنوات، وتفرَّق الدرب بيني وبين طلال.
حتى جاء يوم، قبل ثلاثة أشهر، ذهبت فيه لإجراء صيانة دورية لسيارتي. وهناك، في الورشة، استقبلني شاب بوجه باسم وعينين تلمعان بفرح غامر، وقال لي: «أنت الدكتور أحمد، أليس كذلك؟ كنت معنا في مدرسة سمهرم الخاصة، وأنا أحد طلابك الذين شهدوا ذلك اللقاء الذي حدثتنا فيه عن المستقبل!»
عرفت حينها أنه طلال.
وبكل فخر، بدأ يحدّثني عن رحلته بعد المدرسة: كيف انتقل إلى مسقط ليلتحق بمعهد لتعلُّم ميكانيكا السيارات، وكيف صمّم على أن يكون له موقع في الحياة مرتبط بمهنته التي يحب، وكيف ساعدته صورة المستقبل التي رسمها في عقله يومها على اتخاذ قراراته، وتجاوز العقبات، وتذكير نفسه بهدفه حين تشتد التحديات.
وأشار طلال إلى شعار شركته المطرَّز على صدر قميصه، وقال: «أنا الآن هنا...
كما تخيّلت نفسي يومًا. سعيد، منتج، وأفتخر بما أفعل».
لم تكن كلمات طلال مجرد مجاملة عابرة، بل كانت شهادة حياة؛ شهادة لطالب آمن بصورة رأى نفسه فيها قبل سنوات، فعاشها بكل ما أوتي من عزم وشغف، حتى أصبحت واقعًا.
هكذا يعمل التخيل الإيجابي الموجَّه بالرؤية المستقبلية: ليس حلمًا يُعاش وقت الاسترخاء فقط، بل هو طاقة كامنة تُحرر من داخل النفس ما يجعل الإنسان يتجاوز الحاضر المحدود إلى فضاء الاحتمالات المفتوحة.
وكان طلال مثالًا حيًّا على أن صورة واحدة، حين تُرسم في لحظة صفاء، يمكن أن تتحوّل إلى خريطة طريق لحياة كاملة، تمنح لكل عمل معنى، ولكل لحظة قيمة.
د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية